موقعة أحد.. هل حقًّا هزم فيها المسلمون؟
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
موقعة أحد.. هل حقًّا هزم فيها المسلمون؟
بسم الله الرحمن الرحيم
موقعة "أُحد" إحدى جولات الصِّراع الدائِم بين الخير والشر، بين قُوى الحق وقُوى الباطل، بين المسلمين وأعداء الإسلام، "أحد" حلقةٌ في سلسلة مستمرَّة إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.
لكنَّها تنفرِد بخاصية، وهي اختلاف المؤرِّخين حولها؛ هل كانتْ بالفعل هزيمةً للمسلمين، وانتصارًا للكفار؟ أم كانت جولةً لحقت فيها الخسارة بالمسلمين، لكن لم يتحقق النصر للكفَّار؟
وتبقَى الدروس المستفادة مِن موقعة "أحد" مَعينًا لا يَنضب، ويمكن الرجوع إليه في أيِّ وقت، خاصَّة وأنَّنا نعيش حِقبةً مشابهة؛ حيث تتربص بنا قُوى الشر مِن صِهْيَوْنية وإلحادية.
ولذلك تظلُّ موقعة "أحد" بإرهاصاتِها ووقائعها ونتائجها، والدُّروس المستفادة منها - علامةَ استفهام تحتاج منَّا إلى تحليل وتدبُّر ودراسة، واستخلاص عِبَر وعِظات، ومِن ثم فقد توجَّهت "عكاظ" مِن خلال مراسليها إلى أساتذة التاريخ والسيرة وأصحاب الفضيلة العلماء في العالَم الإسلامي؛ ليقيِّموا نتائجها، وليستخلصوا لنا الدروسَ المستفادة منها في صِراعنا المعاصر.
فماذا يقولون؟
نصرٌ كبير وليس هزيمة:
يقول د. الطيب النجار - رئيس المركز الدولي للسيرة والسنة -:
إذا نظرْنا إلى النتيجةِ النهائيَّة في غزوة أُحد، فإنَّنا لانراها هزيمةً للمسلمين؛ وإنَّما هي في واقِع الأمر نصرٌ كبير، ومِن عجب أنَّ المؤرخين يكادون يُجمعون على أنَّ هذه الغزوة كانت نصرًا للمشركين وهزيمةً للمسلمين! إلا أنَّ مؤرخًا واحدًا خرَج على هذا الإجماع، واعتبر هذه الغزوةَ بالنسبة للمسلمين نصرًا لا هزيمة، وهو اللواء الركن الحاج محمود شيت خطاب في كتابه "الرسول القائد"، وهو مِن علماء المؤرِّخين بالعراق، وإليكم بعض ما قاله هذا المؤرِّخُ في هذا الصَّدَد - وهو الرأي الذي أرْتضيته، وأؤمِن به كلَّ الإيمان -: "لا أتَّفق مع المؤرِّخين في اعتبار نتيجة غزوة أُحد نصرًا للمشركين واندحارًا للمسلمين؛ لأنَّ مناقشة المعركة عسكريًّا تُظهر انتصار المسلمين على الرغم مِن خسائرهم؛ ذلك بأنَّ الممسلمين قدِ انتصروا أولاً في ابتداءِ المعركة، حتى استطاعوا طردَ المشركين من معسكرِهم، والإحاطة بنِسائهم وأموالهم، وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالِد بن الوليد وراءَ المسلمين وقطع خطِّ الرجعة عليهم، جعَل قوَّات المشركين تُطبق على المسلمين مِن كافة الجوانب، وهذا الموقف في المعركة جعَل خسائر المسلمين تكثُر، ولكن بقِي النصر في جانبِهم إلى آخِر لحظة؛ لأنَّ نتيجة كل معركة عسكريًّا لا تُقاس بعدَد الخسائر في الأرواح فقط، بل تقاس بالحصول على هدفِ القتال، وهو القضاء المبرم على العدوِّ ماديًّا ومعنويًّا، وهذا هو الذي لم يحدُث، ولا يمكن اعتبار فشل القوَّة الكبيرة - وهي قوَّة قريش حينئذٍ - في القضاء على القوَّة الصغيرة ماديًّا ومعنويًّا في مِثل هذا الموقف - نصرًا.
ولم تستطعْ قريش أن تؤثِّر على معنوياتِ المسلمين؛ ولذا رأينا المسلمين بعدَ انتهاء غزوة أحد بيوم واحد، قدِ استطاعوا الخروج لمطاردة المشركين، دون أن تجرؤَ قريش على لقائِهم بعيدًا عن المدينة، فكيف يُمكن أن يقال: إنَّ المسلمين هُزِموا، وقد رأيناهم يخرجون بعيدًا عن المدينة ليطاردوا قريشًا، وقريش لا تجرؤ على مواجهتهم؟!
الخروج من الموقف الحرج:
ولا شكَّ أنَّ نجاة المسلمين من الموقِف الحرِج الذي كانوا فيه في أُحد يُعدُّ نصرًا عظيمًا للمسلمين؛ لأنَّ مثل هذا الموقف كان يمكن أن يترتَّب عليه القضاءُ النهائي على المسلمين، لولا قوةُ إيمان المسلمين، التي جعلتْ خسائر المسلمين محدودة.
ونحن نؤيِّد رأي هذا العالِم الجليل ونؤمِن به كلَّ الإيمان، ونرى أنَّ موقف المسلمين في مِثل هذه المحنة واستطاعتهم أنْ يقلِّلوا مِن الخسائر المادية - يُعدُّ بطولةً فائقةً، ولا يُعدُّ هزيمة، وقد رأينا مثلاً لذلك في حياة الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين رجَع المسلمون من غزوة مؤتة، واستطاع قائدُهم حينئذٍ - وهو خالد بن الوليد - أن ينقذَ ما بقِي من جنود المسلمين مِن الفناء؛ بما قام به مِن خطة حربيَّة مكَّنتهم مِن الانسحاب بانتظام، فلقدِ اعتبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك نصرًا للمسلمين، ولم يعتبرْه هزيمةًَ، وحينما رجَع المسلمون إلى المدينة قابلَهم أهلُ المدينة يحثُون التراب في وجوهِهم، ويقولون: "يا فرار، فررتُم من الجهاد!"، ولكن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم ينظرْ هذه النظرةَ السطحية، بل اعتبرهم منتصِرين، وحيَّاهم أحسنَ تحية، فقال: ((لا، لا ليسوا فرارًا، وإنَّما هم الكبار، وهم المجاهِدون الأطهار)).
مخالفة أمر الرسول:
وحول أسباب الهزيمة يقول د. الطيب النجار:
إذا نظرْنا النظرةَ الشاملة إلى هذه الغزوة، لا نَعتبر الخسائرَ التي لحقِتْ بالمسلمين في تلك الغزوة هزيمةً؛ وإنَّما نعتبرها نكسةً طارئة لا تَعني الفشل، وكانت هذه النكسة بسببِ مخالفة جماعة مِن المسلمين ما أمَر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم الرُّماة الذين أوقفهم الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوق الجبل؛ ليحموا ظهورَ المسلمين، فلقدْ تعجَّل هؤلاء حينما رأَوُا المسلمين قد أصبح النصرُ في جانبِهم، وبدؤوا يجمعون الغنائمَ، فظنَّ هؤلاء أنَّ المعركة قد انتهتْ ونسُوا أمرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهم، فترَكوا موقعَهم الحصين، ونقلوا إلى ميدانِ القتال؛ ليجمعوا أسلابَ الحرْب وغنائمها، مع أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد نصحَهم ألاَّ يتركوا مكانَهم، وكانت تلك المخالفة سببًا جعَل خالدَ بن الوليد ينتهز هذه الفرصةَ فيفاجئ المسلمين مِن ورائهم، حتى ينتهي الأمر بقتْل سبعين رجلاً مِن المسلمين، وهو ما ظنَّه معظمُ المؤرِّخين هزيمةً، ولكنَّه في الواقع ليس بهزيمة.
قوَّة الإيمان:
ويستطرِد الدكتور النجار قائلاً:
أمَّا عن مدى استفادتنا بدروس هذه الغَزوة في صِراعنا مع الصِّهيونيَّة والشيوعيَّة وكل القُوى المعادية للإسلام، فأعتقِد - بل أجزم - أنَّه ما مِن غزوة من غزوات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ وهي أساس للعِبرة، وفيها من الفوائد ما يُضيء الطريقَ إلى النصر على الأعداء، وفي مثل غزوة أُحد وما وقَع للمسلمين ممَّا أشرنا إليه بعدَ تلك النكسة الطارئة، نستطيع أن نُقرِّر أنَّ الأساس في النصر إنما هو في طاعةِ القائد، والإخلاص في اتِّباع أوامره.
ومِن هنا أُنادي بأن تكونَ قيادة المسلمين أمامَ أعدائهم واحدةً في أهدافها، وأن يلتفَّ المسلمون جميعًا حولَ تلك القيادة، ومهما تعدَّد الأفراد مِن قادة المسلمين فيُمكن أن يكون هدفُهم واحدًا، وأن يستمدُّوا أوامرَهم من تلك القيادة الموحَّدة، التي تبعدهم عن العداوة والخِصام، والخلاف والانقسام.
ومِن ناحيةٍ أخرى نرى أنَّه لا ينبغي أن تكونَ قوَّة تحيط عن يمين أو شمال، ومن أمام أو من خلف، لا ينبغي أن تكونَ هذه القوة مخيفة لنا - نحن المسلمين - ما دُمنا نثِق بالله ونعتمد عليه؛ فإنَّ الحقَّ دائمًا يعلو ولا يُعلَى عليه، وإنَّ الحصانة الحقيقيَّة إنَّما هي في قوَّة الإيمان، ولا يَنبغي أن يتقاعَس المسلمون عن الجهادِ ويكسل المسلمون، بل الواجب عليهم أن يتَّخذوا مِن الوسائل الفعَّالة القويَّة ما يُمكنهم مِن الوقوف صفًّا واحدًا أمامَ هؤلاء الأعداء.
عوامل القوة:
والتقينا بالدكتور عبدالله المشد - رئيس إدارة الفتوى بالأزهر - الذي قال:
نستطيع أن نستخلصَ من غزوة أُحد أنَّ النبى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكُن يقوم بعملٍ يتعلق بمصالح المسلمين ومستقبلهم إلاَّ إذا استشار المسلمين في ذلك، وجمع في ذلك بيْن شيوخهم وشبابهم؛ حتى يجتمعَ له في عمله القوَّة والعقل وحسن التدبير، وأنَّ مخالفة المسلمين لقائدهم الأعلى في نزول الرُّماة مِن أماكنهم ومخالفتهم لأمْره - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الرغمِ مِن تحذيره لهم بالبقاء في أماكنهم سواء انتصَر المسلمون أم انهزموا؛ ذلك لما في هذه المخالفة مِن تغييرٍ في وجهِ المعركة مِن نصْر في ابتدائها إلى هزيمة.
وعلى الرغمِ مِن توالي الانتصاراتِ للمسلمين بعدَ هذه المعركة وانتصارهم على الفُرس والروم، فإنَّه لا تزال هناك عواملُ قويَّة مِن الثالوث غير المقدَّس لمحاولة القضاءِ على المسلمين، فهذه الصِّهيونيَّة التي قامتْ من عهد جعفر الصادق تعمل على تفتيتِ وحدة المسلمين؛ بإنشاء الفِرق الدينية للقضاء على أُسس الإسلام وقواعده؛ حتى تستطيعَ كل فرقة أن تحاربَ أختها في العقيدة والتشريع؛ ممَّا نشأ عنه الفرقُ المختلفة مِن الباطنية، وهي فرق متعدِّدة يَكيد بعضها لبعض.
كما نستطيع أن نستخلصَ مِن هذه الغزوة اطمئنانَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمدينة عدَّة شهور، يقوم فيها بإتمام التنظيم الاجتماعي للجَماعةِ الإسلاميَّة الناشِئة تنظيمًا دقيقًا، بالوحي تارةً، وباجتهاده الذي يقرُّه عليه الوحي أخرى.
هزيمة تأديبيَّة:
ويقول فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام - عضو هيئة كبار العلماء، ونائب رئيس هيئة التمييز للأحكام الشرعيَّة بالمنطقة الغربية -:
غزوة أحد غزوة انتقامية، أراد بها كفار قريش أخذ الثأر من بعد غزوة بدر التي قتل فيها عدد كبير من زعمائهم الصناديد، فجاءت قريش ونزلت أُحدًا، وخرج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورتب الجيوش ترتيبًا عسكريًّا فريدًا في نوعه؛ حيث جعَل الرُّماة في جبلِ المشاة خلفَ العسكر الإسلامى، وواجَه المسلمون المشركين، ودار القتال بينهم والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أكَّد على الرماة ألاَّ يبرحوا مكانَهم، ولو رأوا الطيرَ تخطَّف المسلمين، وهذا ترتيبٌ عسكري فريد، التحَم المسلمون مع المشركين، وكانتِ الهزيمة على المشركين حتى قُتِل عددٌ كبير منهم، وقُتِل أصحاب اللواء بنو عبدالدار.
ولما رأى الرماةُ المسلمين قد هجموا، أخذوا يستولون على غنائمهم، قالوا: ما بقي لنا مِن مكان، فأميرهم عبدالله بن جُبير أكَّد عليهم، وقال: إنَّ وصية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وترتيبه العسكري ألاَّ تبرحوا مكانَكم مهما كانت الظروف والأحوال، إلاَّ أنهم خالفوا أمرَ نبيِّهم، وأتوا لأجلِ كسب الغنائم مع المسلمين الغانمين، فما كان مِن خيل المشركين التي كانتْ ترقب الموقفَ برئاسة خالد بن الوليد - وكان يومئذٍ قائدَ خيل المشركين - ماكان منهم إلا أن كرُّوا تلك الكَرَّةَ على المسلمين على غفلةٍ منهم، فأوقعوا وقتلوا من المسلمين نحوَ 70 شهيدًا، منهم حمزة بن عبدالمطلب عمّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت هزيمةً تأديبيَّة للمسلمين، وتربيةً لهم عن مخالفتهم لقائدِهم - عليه الصلاة والسلام.
أمر القائد مطاع:
وحولَ الدروس المستفادة مِن أُحد، يردِف الشيخ البسام:
العِبر في أُحد كثيرة، منها: وجوب امتثال أمرِ القادة ومهما كانت الظروف؛ فإنَّ أمر القائد لا يُخالف بأيِّ حال من الأحوال، فما كانت الهزيمة هذه إلا بسبب مخالفة هؤلاء الرُّماة لأمر قائدِهم وزعيمهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو ثبتوا مكانَهم ما صار هناك مجالٌ لخيل المشركين أن تكرَّ على المسلمين، وما هي إلاَّ عِبرة وعظة، وهذه القصَّة جاءت في سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 121] إلى آخِر الآيات، فالسورة تعرَّضت لهذه الواقعة، وبيَّنتْ أسباب الهزيمة والفشَل الذي أصاب المسلمين، وبهذا تؤخَذ دروس، ويعلم أنَّ الله يوجه ويربِّي المسلمين خيرَ التوجيه والتربية.
ونُدرك أيضًا مِن معطيات موقعة أُحد وجوبَ اتحاد كلمة المسلمين، وأنَّه يجب أن تكونَ كلمة المسلمين واحدةً، والمسلمون ما أصابهم الفشلُ إلا بالتفرُّق، ولما اختلفتْ كلمتهم وخالفوا أمرَ أميرهم، أصابتِ المسلمين هذه الهزيمةُ، ولو كانت الكلمة واحدة والأمر مطاعًا منفذًا، ما أصاب المسلمين شيءٌ من الهزيمة، فنأخذ مِن هذا أنَّه يجب علينا في حاضرنا الآن أن تكونَ كلمتنا واحدة، وأن ننفذ الأوامرَ التي تصدر إلينا مِن قادتنا وزعمائنا.
الجهاد في الإسلام:
أما الدكتور عبدالصبور مرزوق، فيرَى:
أنَّ الجو العام لفِكرة الجهاد في الاطلاع تقوم في أساسها الأوَّل على إرادة القِتال مِن المسلم نفسه، فإذا قام المسلمُ بوضع نفسه في هذا الإطار؛ إطار ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: 14] إلى آخر الآية الكريمة، كان لهم النصر والغَلبة على الأعداء، ولكن عندما يبعد المسلمُ عن هذا الجوِّ، فإنَّ الأمرَ يتحول إلى نوعٍ من علاقة صراع قوي دون أن يكونَ هناك حاكميَّة لله - سبحانه وتعالى - في القتال.
الحرب خدعة:
ومِن أسبابِ هزيمة المسلمين في غزوة أُحد حدوثُ نوْع من التخاذل أدَّى إلى البحث عن الغنائم مِن بعض الأفراد، فكانتِ النتيجة نكسةً أصابت المسلمين، أدَّتْ إلى تحوُّل المعركة خلالَ فترة زمنية أو جزئية مِن المعركة لصالح المشركين.
ومِن نتائج هذه الغزوة صِدقُ نُبوءة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبذكائه وحِكمته النادرة استطاع في اليومِ التالي أن يحوِّل هذه الهزيمةَ إلى نصر، كذلك تحقيق عنصر المفاجأة، ونتائج أُحد لا تستغلُّ منفصلةً عن نتائج الأحزاب، فهي فترةٌ مليئة بالاضطرابات، انتهتْ بفوز المسلمين واندحار أعدائهم، كما تؤكِّد لنا نتائجُ غزوة أُحد تحقيقَ المبدأ الحربي المعروف "الحرب خُدعة"، كذلك يجيء مِن نتائجها هزيمة نعتبرها مباركةً؛ لأنَّها كشفت نقاط الضعْف في صفوف المسلمين، وهذا درسٌ من الله لهم؛ لكي يمتثلوا أوامر الرسول.
هل انتصر المشركون؟
الدكتور عبدالله بن إبراهيم الطريقى - وكيل كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود - يعرِض وقائع موقعة أُحد قائلاً:
تُعتبر غزوة أحد مِن المعارك الشهيرة التي دارتْ رحاها بيْن: أولياء الله، وأولياء الشيطان.
أما أولياء الله، فهم: المهاجِرون والأنصار، بقِيادة الرسول الأعظم، والقائِد المحنَّك - عليه الصلاة والسلام.
وأمَّا أولياء الشيطان، فكانوا كفَّارَ قريش، بقيادة زعاماتِ الكفر والشرك، وفي مقدمتهم أبو سفيان.
وقد حصلتِ المعركة قربَ المدينة عندَ جبل أحد.
وكانت من جولتين:
أولاهما: انتصَر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا، وغنِموا غنائمَ كبيرة.
ثانيتهما: خسِر فيها المسلمون بعضَ الخسائر المادية، وظهَر فيها المشركون بمظهر المنتصر.
ولكن هذه النتيجة تحتاج إلى شيءٍ من التأمُّل والدراسة؛ فهل كانت نتيجتها انتصارَ المشركين انتصارًا حقيقيًّا، وانهزام المسلمين هزيمة حقيقية.
الواقِع أنَّه قد كثُر الحديث والنِّقاش حولَ هذه النتيجة، وأكثر المؤرِّخين يرَونها انتصارًا للمشركين، ولكن الحقيقة أن ذلك محل لغز إذا تأملنا الآتي:
1- أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - استطاع وهو القائِد العام للمعركة أن يتَّجه بِمَن معه من المسلمين مِن قتْل مستأصل شامل، حيث انحاز إلى مكان آخَر قريب مِن مكان المعركة، استطاع المسلمون من خلاله أن يُعيدوا تنظيمَهم، وأن يدافعوا عن أنفسِهم.
2- أنَّ المشركين بقيادة خالد بن الوليد قد انسحَبُوا بعدَ يأسهم من إبادة المسلمين، يجرُّون أذيالَ القهر والخيبة.
3- أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - استطاع أن يَتتبَّع فلولَ المشركين بعد توقُّف الحرب، بالرغمِ مِن الإنهاك والإجهاد الواقعَينِ للمسلمين.
كل ذلك يجعلنا نميل إلى أنَّ نتيجةِ هذه الغزوة كانت لصالح المسلمين؛ لما حصَل فيها، وإعطاء المسلمين دروسًا عمليَّة في وجوب الالتزام والانضباط، وأخْذ الحيطة والحَذر من عدوِّهم.
هذه هي الأسباب:
أمَّا أسباب هزيمة المسلمين الظاهرة، فهي كثيرةٌ، أهمُّها:
1- عصيان الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - باعتباره نبيًّا يجِب اتِّباعُ أمرِه، وباعتبارِه قائدًا يجب التزامُ أوامره وتوجيهاته.
ذلك أنَّ الرماةَ - وعددهم خمسون فردًا - لم يمتثلوا أمرَ رسولِ الله لهم بالبقاء في الجبَل حين قال لهم: ((إنْ رأيتمونا تتخطفنا الطيرُ، فلا تَبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإنْ رأيتمولنا هَزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تَبرحوا حتى أرسلَ إليكم)).
2- عدم المطاردة: أي عدَم مطاردة الجيش الإسلامي لجيشِ الكُفر بعدَ انتصاره الأول، بل ترَكوهم وأعطوهم فرصةً للمِّ الشمل، وجمْع الصف، وإعادة التنظيم.
3- انشغال المسلمين بجَمْع الغنائم بعدَ النصر في الجولة الأولى، الأمر الذي أتاح للكفَّار وقتًا ثمينًا للتفكير والتدبير.
4- المباغتة مِن الكفَّار، حيث هجَموا هجومًا مباغتًا لم يخطرْ على بال المسلمين، ولا سيَّما أنَّ المسلمين في تلك الحال كانوا آمنين وقد وضَعوا عنهم سلاحَهم.
5- إشاعة مَقْتل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بدءِ الجولة الثانية، حيث صاح الشيطان أنَّ محمدًا قُتِل، الأمر الذي أضعفَ عزيمةَ أكثر المسلمين، وقوَّى عزيمة المشركين.
دروس وعبر:
ويُضيف الدكتورُ الطريقي حولَ الدروس المستفادة قائلاً:
أمَّا كيف نستفيد مِن الدروس والمعطيات الخاصَّة بهذه الغزوة في صِراعنا مع أعدائنا في العصرِ الحاضر مِن اليهود والشيوعيَّة والصليبيَّة الحاقِدة، والمشركين مِن أرباب الديانات الوثنيَّة المختلفة، فإنَّ هذا جديرٌ بالنظر والتأمُّل، فواجبُ المسلمين اليوم، وهم يُعانون التحدِّي والاضطهاد في كثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة، وفي بلاد غير إسلاميَّة كالفلبِّين ودول شرق أوروبا وروسيا وغيرها - إنَّ واجبهم عظيمٌ للغاية، فنحن رأينا في هذه الغزوةِ أنَّ المسلمين حصلتْ لهم النكسة بسببِ أمور، مِن أبرزها:
1- عصيان رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا شكَّ أنَّ معصيته موجبة للانهزام النفسي والمادي، كما قال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
ولا شكَّ أنَّ أعظم العصيان الحُكم بغير ما أنزل الله مِن القوانين البشريَّة الوضعيَّة، والسماح للكُفر والخرافة والبِدعة بالانتشار في المجتمعات الإسلاميَّة، وكذلك ترْك الرذيلة تفشو وتنخر في كيان الأمَّة المسلمة.
2- الانشغال بالدُّنيا وزخارفِها وبهرجِها، مثل ما حصَل مِن المسلمين من الانشغال بالغنائم، حيث حكَى الله عنهم في قوله سبحانه: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152].
ولا شكَّ أنَّ الانغماس في الدنيا ولذَّاتها يفوِّت على المسلمين مصالحَ عظيمة، ويُجرِّئ عليهم عدوَّهم.
3- التنازُع والتفرُّق، حيث كانا سببًا في نكسةِ المسلمين يوم أُحد، حين اختلفَ الرُّماة مع قائدهم عبدالله بن جبير الأنصاري، وخالفوا أمْره وأمْر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
4- أخْذ الحيطة والحذَر من الأعداء؛ وذلك بإعدادِ العُدَّة، والتنظيم العسكري المحكَم الدقيق المستمرّ، كما قال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، بل ولا بدَّ مِن الحَذر من العدوِّ الداخلي، المتمثِّل في المنافقين الذين يتظاهرون بمحبَّة المسلمين وبمحبَّة دِين الإسلام.
5- الصَّبر وعدَم الجزع، فإذا أُصيب المسلمون بخسائرَ ماديَّة؛ مِن تقتيل، أو اضطهاد، أو نقْص في الأموال، فعليهم الصبر وعدَم الجزع، كما قال سبحانه مسليًا المسلمين بعدَ نكسة أحد: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 139 - 140]، ويضرِب الله المثل مِن الأنبياء الصابرين الصادقين، فيقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146 - 148].
ولا شكَّ أنَّ الدروس عظيمة وكثيرة، لا يُمكن حصرُها في هذه العجالة، ونسأل اللهَ تعالى لنا وللمسلمين عامَّة التوفيقَ لتحكيم شرْعه، والاجتماع على الحق ومناصرته، وإبطال الباطِل ومحاربته.
ابتلاء من الله:
والتقينا بفضيلة الشيخ عبدالعزيز المسند - المشرِف على الإدارة العامَّة لتطوير التعليم بوزارة التعليم العالي - وسألناه عن تقويمه لنتائجِ موقعة أُحد وما آل إليه حالُ المسلمين، فأجابنا قائلاً:
آثار أُحد عظيمة، وأسباب هزيمة المسلمين فيها واضحةٌ مِن كلام الله - عزَّ وجلَّ - الذي يُتلَى في القرآن، حيث أخبر ربُّ العزة أنَّه ابتلاهم بعدَ أن كان الأمر لهم، وسرُّ ذلك معروفٌ، وهو أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لقائدِ الرُّماة عبدالله بن جبير: ((لا تَبْرحوا مكانَكم، انتصرنا أم هُزمنا))، وعندَما أصبح النصرُ للمسلمين وأخَذوا يجمعون الغنائمَ وولَّى الكفَّارُ الأدبارَ، قال بعضُ الرماة: إخواننا يجمعون الغنائمَ، ونزَلوا، وثبت أميرُهم وبعض الرُّماة الذين بقُوا على جبل أحد ولم تُغرِهم المادة، وحدَث الابتلاء.
وهذا دليلٌ على أهمية الانضباط في الإسلام؛ حيث إنَّه يجِب طاعة القائد مهمَا كانت الظروف.
هل نحن مثل أهل بدر؟
وعن كيفية الاستفادة مِن الدروس والمعطيات الخاصَّة بموقعة أحد في صِراعنا المعاصر ضدَّ القوى المعادية للإسلام، يقول فضيلته:
يجِب على المسلمين طاعةُ قائدهم والتضامن، وألاَّ تغرهم الدنيا ولا ينخدعوا بمظهرها البرَّاق والكسب السريع؛ حتى يحقِّقوا النصر الكامل.
وإنَّني أرى أنَّ غزوة أحد يجب أن تكونَ درسًا للمسلمين عندما تبدو إشارة الحرب، فيجب أن يقوِّموا أنفسَهم ويعرفوا جنودَهم، فيُقيِّم القائد كلَّ جندي بمقدار إيمانه وثباته وطاعته؛ لأنَّ خطأ عدد قليل مِن المسلمين جرَّ عليهم جميعًا الويلات، فابتلاهم الله بالأمْر العظيم، وهو البلوى بالقتْل؛ حيث قُتِل منهم سبعون رجلاً، فهذه بليةٌ يجب ألاَّ ينساها المسلمون دومًا، ويدخلوا الحرب وهم مستعدُّون، ويدركوا نتائج كلِّ تصرف يمكن أن يقدموا عليه.
ويُضيف فضيلته:
أمَّا بالنسبة لصِراع المسلمين المعاصر مع الصِّهيونيَّة، فيجب أن نؤكِّد على حقيقةٍ هامَّة، مفادها: أنَّ مسلمي اليوم ليسوا كما يُريدهم الله - عزَّ وجلَّ - ولو كانوا مِثل أهل بدر، لحصَل النصرُ لا محالة كما وعَدَ الله - عزَّ وجلَّ.
ومِن الصفات المفقودة في مُسلِمي اليوم الجهادُ في سبيلِ الله بنيَّة خالِصة، وتحت شعار "إمَّا النصر أو الشهادة"، وأؤكِّد مرةً أخرى: لو عُدْنا إلى الله، لتحقَّق النصر.
إستراتيجيات أُحد:
وحولَ إستراتيجيَّات الموقعة، يقول الدكتور أحمد حسن الفقي - رئيس قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الملك عبدالعزيز -:
تُعتبر معركةُ أحد ذاتَ أهمية كبرى في التاريخ الاسلامي، كما أنَّها أَحد الحلقات الخَطرة مِن حلقات الصراع بين المسلمين والمشركين، وعلى هذا فإنَّ دراسة هذه المعركة تحتاج إلى وقفةٍ متأنية فاحِصة، ومدقّقة واعية؛ فهي معركةٌ كان الهدف الأساسي منها رغبةَ قريش في الثأر مِن المسلمين لقتلاهم في بدر، وتحتَ هذا الهدف بالطبع هذه المعركة لم تكُن بين قريش والمسلمين فقط، وإنما كانتْ بين المسلمين وقريش وأحلافِها من بني مالك بن كنانة وأهل تهامة؛ أي: إنَّ هذه المعركة قد وسَّعت الصراع الذي تعدَّى قريشًا.
ولو دقَّقنا لنعرف إستراتيجياتِ هذه المعركة، فإنَّنا نلاحظ الآتي:
أولاً: أنَّ القوة بين الطرفين لم تكُن متعادلة، بل كانتْ في صالح قريش وأحلافها، فقدْ كان عددُ محاربي المشركين ثلاثة آلاف رجل إضافة إلى فريق التشجيع والحماس النِّسائي، بينما كان عددُ المسلمين سبعمائة راجلٍ فقط.
ثانيًا: عَمل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القائد الأعْلى للمسلمين على الاستفادة مِن الإمكانيات الطبيعيَّة والبشريَّة المتاحة له آنذاك، ويذكر بعض المؤرِّخين أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان لا يرغَب في الخروج مِن المدينة، وكان يَكْره ذلك، وحينما عقَد مجلس المشاورة مع المسلمين كان الحماس يدفعهم إلى ملاقاةِ أعداء الله، فطالبوا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخروج، بينما أشار عليه عبدالله بن أُبيِّ بالبقاء في المدينة وعدَم الخروج منها، وقال لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أقِم بالمدينة ولا تخرج إليهم، ووالله ما خرجْنا منها إلى عدوٍّ لنا قط إلا أصابَ منا، ولا دخَل علينا إلا أصبْنا منه"، وأخَذَ الرسول برأي الأغلبية الداعية إلى الخروج، وأمر بالاستعداد للخروج وملاقاة أعداءِ الله، وكان ذلك بعدَ صلاة الجمعة.
وعقد ثلاثة ألوية: لواء الأوس، وعُقدت إلى أسيد بن حُضير، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر بن الجموح، وقيل: إلى سعد بن عبادة، ولواء المهاجرين إلى عليِّ بن أبي طالب، وقيل: إلى مصعب بن عمير، واستخلَف على المدينة عبدالله بن أمِّ مكتوم.
ثالثًا: حينما وصَل الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجموع المسلمين إلى ميدان المعركة بأُحد، أمَر بأن يكون جبلُ أُحد خلفَ ظهورهم والمدينة قِبلتهم. كان أن عيَّن عبدالله بن جبير أميرًا على طريقِ الرماة، وكان عددهم خمسين رجلاً، وأصدر إليهم تعليماتِه بالمرابطةِ على جبل "عينين" موجهًا الأمْر لأميرهم: ((انضحِ الخيل عنَّا بالنبل؛ لا يأتونا مِن خلفنا، إنْ كان لنا أو علينا، فاثبتْ مكانك؛ لا نؤتينَّ مِن قبلك))، وهذه التعليمات وهذا التوجيه مِن قائد المسلمين يُعتبر عملاً عسكريًّا غاية في الأهمية، وإستراتيجيَّة دقيقة وممتازة؛ فهي عبارة عن حمايةٍ لظهور المقاتلين المسلمين وصدّ الخيل عنهم، والتي كان لقريش منها مائة ضروس، بينما لم يكُن لدَى المسلمين منها شيء، (وإن كانت بعض الروايات تُشير إلى وجودِ فرسين فقط لديهم).
أطوار المعركة:
ودارتِ المعركة بيْن الفريقين قويةً قاسية مع طلوعِ فجْر السبت، وكان لهذه المعركة طوران:
الطور الأول: تمكَّن فيه المسلمون مِن هزيمة قريش وحلفائها بعِددهم الكثير وعُدَّتهم الوفيرة؛ وذلك لأنَّ المحاربين المسلمين قد نَفَّذوا بدقة كاملة تعليماتِ قائدهم رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهكذا كان للطاعةِ وتنفيذ التعليمات بإخلاص ثمرةٌ واحدة، هي النصر، وأخَذ المسلمون يلاحِقون فلولَ قريش، وهنا يبدأ الطورُ الثاني في المرحلة الثانية في القِتال، وذلك حينما بدأ معظمُ فريق الرماة يتحرَّك مِن مكانه؛ طمعًا في الغنيمة، وظنًّا منه أنَّ النصر قد تَم نهائيًّا للمسلمين، تاركين التمسُّكَ بتعليمات وأوامر قائدهم، وهنا استغلَّتْ قريش هذه الثغرةَ في دفاعات المسلمين، فاندفعتْ خيلهم تفتكُ بالمسلمين من خلف ظهورِهم.
وتَغيَّرتْ موازين القتال، وتحوَّل نصر المسلمين السابق إلى ارْتباك وفوْضى، ثم إلى هزيمة، وصار الوضع أكثر تدهورًا حينما صاحَ الشيطان بأنَّ محمدًا قد قُتِل، ممَّا زاد في ارتباك المسلمين، وأخذوا يقتلون بعضهم بعضًا وهم لا يشعرون، وانهزمتْ طائفة منهم وتفرَّق البقيةُ، وأُصيب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتدفَّق الدم مِن وجهه الكريم، وثبَت معه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر، وانتهتِ المعركة بفوز مؤقَّت لقريش.
رابعًا: لقدْ ظَهَر قبل المعركة وخلالها وبعدَها عددٌ مِن الأمور الهامة، هي:
1- أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغم قلَّة عددِ رِجاله، فإنَّه لم يسمحْ لصغار السنِّ بالمشاركة في القِتال، وردَّ الكثيرَ منهم إلى المدينة.
2- أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رفَض مشاركة المشركين معه في القِتال، فقال: ((قولوا لهم فليرجعوا؛ فإنَّا لا نستعين بالمشركين على المشركين)).
3- أنَّ "أبا دجانة" الذي أعطاه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيفَه لم يقتلْ به امرأةً رغم أنَّه كان في إمكانه وضعُ السيف على رقبة هند بنت عتبة وفريقها، الذي كان يُردِّد أناشيد الحماس وحثّ المقاتلين على مقاتلةِ المسلمين، وقال أبو دجانة بأنَّه كَرِه أن يضربَ بسيفِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - امرأة لا ناصرَ لها.
ولو أردْنا أن نحدِّد الأسبابَ الحقيقية للهزيمة التي لحِقَتِ بالمسلمين في أُحد، فإنَّنا نستطيع القول بأنَّ سببَ الهزيمة الحقيقي أو الرَّئيسي بعدَ إرادة الله - هو مخالَفة الرُّماة لأمْر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وترْكهم موقعهم الذي انقضَّ منه المشرِكون على ظهورِ المسلمين، وبِسلاح لا يَملك المسلمون مثيلاً له، ألاَ وهو سلاحُ الفرسان.
مفاتيح النصر:
ويستطرد الدكتورُ الفقي متناولاً الدروس المستفادة مِن موقعة أُحد، فيقول:
لكي نستفيدَ مِن دروس موقعة أحد، فإنِّي أُؤكد بأنَّ الطاعة دومًا هي قِمَّة كل أمر، وهي مِفتاح كلِّ نجاح ونصر، بدءًا بطاعة الله ورسوله ثم وليِّ الأمر، ونزولاً حتى أصغر رئيس يعلوه بمرتبةٍ واحدة، ويَلي الطاعةَ التخطيطُ السَّليم، والاستفادة مِن كلِّ المعطيات، أرضًا وبشَرًا ومناخًا، ومناورةً وحركة، وكمَا أوضحتُ لقدْ كان عددُ المسلمين أقلَّ من ثلث عدد المشركين، ومع ذلك فقد كانت الجولةُ الأولى مِن القتال نصرًا باهرًا للمسلمين، ولكن في الجولة الثانية انتكس المسلمون، وهذه لم تكن بسببِ عدم تكافؤ القوَّة، بقدْر ما كانتْ نتيجة للإهمال مِن قِبل فريق الرُّماة لتعليمات القائد.
وخُلاصة القول: فإنَّ الصبر والإيمان بالهدَف، والثقة بالقيادة وطاعتها وتنفيذ تعليماتها بدقَّة، وعدم تَصديقِ الشائعات التي قدْ تسبب في حالِ تصديقها الحطّ مِن العزيمة والاندفاع، والتقليلإنْ لم يكن الإجهاض على فُرَص النصر.
وفي اعتقادي أنَّ أمَّتنا الإسلامية الكريمة لو عمِلتْ بكلِّ معطيات تاريخها الإسلامي بما فيه مِن أمجادٍ وقوَّة وإيمان وتصميمٍ على الحق، لكُتِب لها النصرُ، وهو لها - بإذنِ الله عزَّ وجلَّ.
د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
الالوكة
موقعة "أُحد" إحدى جولات الصِّراع الدائِم بين الخير والشر، بين قُوى الحق وقُوى الباطل، بين المسلمين وأعداء الإسلام، "أحد" حلقةٌ في سلسلة مستمرَّة إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.
لكنَّها تنفرِد بخاصية، وهي اختلاف المؤرِّخين حولها؛ هل كانتْ بالفعل هزيمةً للمسلمين، وانتصارًا للكفار؟ أم كانت جولةً لحقت فيها الخسارة بالمسلمين، لكن لم يتحقق النصر للكفَّار؟
وتبقَى الدروس المستفادة مِن موقعة "أحد" مَعينًا لا يَنضب، ويمكن الرجوع إليه في أيِّ وقت، خاصَّة وأنَّنا نعيش حِقبةً مشابهة؛ حيث تتربص بنا قُوى الشر مِن صِهْيَوْنية وإلحادية.
ولذلك تظلُّ موقعة "أحد" بإرهاصاتِها ووقائعها ونتائجها، والدُّروس المستفادة منها - علامةَ استفهام تحتاج منَّا إلى تحليل وتدبُّر ودراسة، واستخلاص عِبَر وعِظات، ومِن ثم فقد توجَّهت "عكاظ" مِن خلال مراسليها إلى أساتذة التاريخ والسيرة وأصحاب الفضيلة العلماء في العالَم الإسلامي؛ ليقيِّموا نتائجها، وليستخلصوا لنا الدروسَ المستفادة منها في صِراعنا المعاصر.
فماذا يقولون؟
نصرٌ كبير وليس هزيمة:
يقول د. الطيب النجار - رئيس المركز الدولي للسيرة والسنة -:
إذا نظرْنا إلى النتيجةِ النهائيَّة في غزوة أُحد، فإنَّنا لانراها هزيمةً للمسلمين؛ وإنَّما هي في واقِع الأمر نصرٌ كبير، ومِن عجب أنَّ المؤرخين يكادون يُجمعون على أنَّ هذه الغزوة كانت نصرًا للمشركين وهزيمةً للمسلمين! إلا أنَّ مؤرخًا واحدًا خرَج على هذا الإجماع، واعتبر هذه الغزوةَ بالنسبة للمسلمين نصرًا لا هزيمة، وهو اللواء الركن الحاج محمود شيت خطاب في كتابه "الرسول القائد"، وهو مِن علماء المؤرِّخين بالعراق، وإليكم بعض ما قاله هذا المؤرِّخُ في هذا الصَّدَد - وهو الرأي الذي أرْتضيته، وأؤمِن به كلَّ الإيمان -: "لا أتَّفق مع المؤرِّخين في اعتبار نتيجة غزوة أُحد نصرًا للمشركين واندحارًا للمسلمين؛ لأنَّ مناقشة المعركة عسكريًّا تُظهر انتصار المسلمين على الرغم مِن خسائرهم؛ ذلك بأنَّ الممسلمين قدِ انتصروا أولاً في ابتداءِ المعركة، حتى استطاعوا طردَ المشركين من معسكرِهم، والإحاطة بنِسائهم وأموالهم، وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالِد بن الوليد وراءَ المسلمين وقطع خطِّ الرجعة عليهم، جعَل قوَّات المشركين تُطبق على المسلمين مِن كافة الجوانب، وهذا الموقف في المعركة جعَل خسائر المسلمين تكثُر، ولكن بقِي النصر في جانبِهم إلى آخِر لحظة؛ لأنَّ نتيجة كل معركة عسكريًّا لا تُقاس بعدَد الخسائر في الأرواح فقط، بل تقاس بالحصول على هدفِ القتال، وهو القضاء المبرم على العدوِّ ماديًّا ومعنويًّا، وهذا هو الذي لم يحدُث، ولا يمكن اعتبار فشل القوَّة الكبيرة - وهي قوَّة قريش حينئذٍ - في القضاء على القوَّة الصغيرة ماديًّا ومعنويًّا في مِثل هذا الموقف - نصرًا.
ولم تستطعْ قريش أن تؤثِّر على معنوياتِ المسلمين؛ ولذا رأينا المسلمين بعدَ انتهاء غزوة أحد بيوم واحد، قدِ استطاعوا الخروج لمطاردة المشركين، دون أن تجرؤَ قريش على لقائِهم بعيدًا عن المدينة، فكيف يُمكن أن يقال: إنَّ المسلمين هُزِموا، وقد رأيناهم يخرجون بعيدًا عن المدينة ليطاردوا قريشًا، وقريش لا تجرؤ على مواجهتهم؟!
الخروج من الموقف الحرج:
ولا شكَّ أنَّ نجاة المسلمين من الموقِف الحرِج الذي كانوا فيه في أُحد يُعدُّ نصرًا عظيمًا للمسلمين؛ لأنَّ مثل هذا الموقف كان يمكن أن يترتَّب عليه القضاءُ النهائي على المسلمين، لولا قوةُ إيمان المسلمين، التي جعلتْ خسائر المسلمين محدودة.
ونحن نؤيِّد رأي هذا العالِم الجليل ونؤمِن به كلَّ الإيمان، ونرى أنَّ موقف المسلمين في مِثل هذه المحنة واستطاعتهم أنْ يقلِّلوا مِن الخسائر المادية - يُعدُّ بطولةً فائقةً، ولا يُعدُّ هزيمة، وقد رأينا مثلاً لذلك في حياة الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين رجَع المسلمون من غزوة مؤتة، واستطاع قائدُهم حينئذٍ - وهو خالد بن الوليد - أن ينقذَ ما بقِي من جنود المسلمين مِن الفناء؛ بما قام به مِن خطة حربيَّة مكَّنتهم مِن الانسحاب بانتظام، فلقدِ اعتبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك نصرًا للمسلمين، ولم يعتبرْه هزيمةًَ، وحينما رجَع المسلمون إلى المدينة قابلَهم أهلُ المدينة يحثُون التراب في وجوهِهم، ويقولون: "يا فرار، فررتُم من الجهاد!"، ولكن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم ينظرْ هذه النظرةَ السطحية، بل اعتبرهم منتصِرين، وحيَّاهم أحسنَ تحية، فقال: ((لا، لا ليسوا فرارًا، وإنَّما هم الكبار، وهم المجاهِدون الأطهار)).
مخالفة أمر الرسول:
وحول أسباب الهزيمة يقول د. الطيب النجار:
إذا نظرْنا النظرةَ الشاملة إلى هذه الغزوة، لا نَعتبر الخسائرَ التي لحقِتْ بالمسلمين في تلك الغزوة هزيمةً؛ وإنَّما نعتبرها نكسةً طارئة لا تَعني الفشل، وكانت هذه النكسة بسببِ مخالفة جماعة مِن المسلمين ما أمَر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم الرُّماة الذين أوقفهم الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوق الجبل؛ ليحموا ظهورَ المسلمين، فلقدْ تعجَّل هؤلاء حينما رأَوُا المسلمين قد أصبح النصرُ في جانبِهم، وبدؤوا يجمعون الغنائمَ، فظنَّ هؤلاء أنَّ المعركة قد انتهتْ ونسُوا أمرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهم، فترَكوا موقعَهم الحصين، ونقلوا إلى ميدانِ القتال؛ ليجمعوا أسلابَ الحرْب وغنائمها، مع أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد نصحَهم ألاَّ يتركوا مكانَهم، وكانت تلك المخالفة سببًا جعَل خالدَ بن الوليد ينتهز هذه الفرصةَ فيفاجئ المسلمين مِن ورائهم، حتى ينتهي الأمر بقتْل سبعين رجلاً مِن المسلمين، وهو ما ظنَّه معظمُ المؤرِّخين هزيمةً، ولكنَّه في الواقع ليس بهزيمة.
قوَّة الإيمان:
ويستطرِد الدكتور النجار قائلاً:
أمَّا عن مدى استفادتنا بدروس هذه الغَزوة في صِراعنا مع الصِّهيونيَّة والشيوعيَّة وكل القُوى المعادية للإسلام، فأعتقِد - بل أجزم - أنَّه ما مِن غزوة من غزوات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ وهي أساس للعِبرة، وفيها من الفوائد ما يُضيء الطريقَ إلى النصر على الأعداء، وفي مثل غزوة أُحد وما وقَع للمسلمين ممَّا أشرنا إليه بعدَ تلك النكسة الطارئة، نستطيع أن نُقرِّر أنَّ الأساس في النصر إنما هو في طاعةِ القائد، والإخلاص في اتِّباع أوامره.
ومِن هنا أُنادي بأن تكونَ قيادة المسلمين أمامَ أعدائهم واحدةً في أهدافها، وأن يلتفَّ المسلمون جميعًا حولَ تلك القيادة، ومهما تعدَّد الأفراد مِن قادة المسلمين فيُمكن أن يكون هدفُهم واحدًا، وأن يستمدُّوا أوامرَهم من تلك القيادة الموحَّدة، التي تبعدهم عن العداوة والخِصام، والخلاف والانقسام.
ومِن ناحيةٍ أخرى نرى أنَّه لا ينبغي أن تكونَ قوَّة تحيط عن يمين أو شمال، ومن أمام أو من خلف، لا ينبغي أن تكونَ هذه القوة مخيفة لنا - نحن المسلمين - ما دُمنا نثِق بالله ونعتمد عليه؛ فإنَّ الحقَّ دائمًا يعلو ولا يُعلَى عليه، وإنَّ الحصانة الحقيقيَّة إنَّما هي في قوَّة الإيمان، ولا يَنبغي أن يتقاعَس المسلمون عن الجهادِ ويكسل المسلمون، بل الواجب عليهم أن يتَّخذوا مِن الوسائل الفعَّالة القويَّة ما يُمكنهم مِن الوقوف صفًّا واحدًا أمامَ هؤلاء الأعداء.
عوامل القوة:
والتقينا بالدكتور عبدالله المشد - رئيس إدارة الفتوى بالأزهر - الذي قال:
نستطيع أن نستخلصَ من غزوة أُحد أنَّ النبى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكُن يقوم بعملٍ يتعلق بمصالح المسلمين ومستقبلهم إلاَّ إذا استشار المسلمين في ذلك، وجمع في ذلك بيْن شيوخهم وشبابهم؛ حتى يجتمعَ له في عمله القوَّة والعقل وحسن التدبير، وأنَّ مخالفة المسلمين لقائدهم الأعلى في نزول الرُّماة مِن أماكنهم ومخالفتهم لأمْره - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الرغمِ مِن تحذيره لهم بالبقاء في أماكنهم سواء انتصَر المسلمون أم انهزموا؛ ذلك لما في هذه المخالفة مِن تغييرٍ في وجهِ المعركة مِن نصْر في ابتدائها إلى هزيمة.
وعلى الرغمِ مِن توالي الانتصاراتِ للمسلمين بعدَ هذه المعركة وانتصارهم على الفُرس والروم، فإنَّه لا تزال هناك عواملُ قويَّة مِن الثالوث غير المقدَّس لمحاولة القضاءِ على المسلمين، فهذه الصِّهيونيَّة التي قامتْ من عهد جعفر الصادق تعمل على تفتيتِ وحدة المسلمين؛ بإنشاء الفِرق الدينية للقضاء على أُسس الإسلام وقواعده؛ حتى تستطيعَ كل فرقة أن تحاربَ أختها في العقيدة والتشريع؛ ممَّا نشأ عنه الفرقُ المختلفة مِن الباطنية، وهي فرق متعدِّدة يَكيد بعضها لبعض.
كما نستطيع أن نستخلصَ مِن هذه الغزوة اطمئنانَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمدينة عدَّة شهور، يقوم فيها بإتمام التنظيم الاجتماعي للجَماعةِ الإسلاميَّة الناشِئة تنظيمًا دقيقًا، بالوحي تارةً، وباجتهاده الذي يقرُّه عليه الوحي أخرى.
هزيمة تأديبيَّة:
ويقول فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام - عضو هيئة كبار العلماء، ونائب رئيس هيئة التمييز للأحكام الشرعيَّة بالمنطقة الغربية -:
غزوة أحد غزوة انتقامية، أراد بها كفار قريش أخذ الثأر من بعد غزوة بدر التي قتل فيها عدد كبير من زعمائهم الصناديد، فجاءت قريش ونزلت أُحدًا، وخرج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورتب الجيوش ترتيبًا عسكريًّا فريدًا في نوعه؛ حيث جعَل الرُّماة في جبلِ المشاة خلفَ العسكر الإسلامى، وواجَه المسلمون المشركين، ودار القتال بينهم والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أكَّد على الرماة ألاَّ يبرحوا مكانَهم، ولو رأوا الطيرَ تخطَّف المسلمين، وهذا ترتيبٌ عسكري فريد، التحَم المسلمون مع المشركين، وكانتِ الهزيمة على المشركين حتى قُتِل عددٌ كبير منهم، وقُتِل أصحاب اللواء بنو عبدالدار.
ولما رأى الرماةُ المسلمين قد هجموا، أخذوا يستولون على غنائمهم، قالوا: ما بقي لنا مِن مكان، فأميرهم عبدالله بن جُبير أكَّد عليهم، وقال: إنَّ وصية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وترتيبه العسكري ألاَّ تبرحوا مكانَكم مهما كانت الظروف والأحوال، إلاَّ أنهم خالفوا أمرَ نبيِّهم، وأتوا لأجلِ كسب الغنائم مع المسلمين الغانمين، فما كان مِن خيل المشركين التي كانتْ ترقب الموقفَ برئاسة خالد بن الوليد - وكان يومئذٍ قائدَ خيل المشركين - ماكان منهم إلا أن كرُّوا تلك الكَرَّةَ على المسلمين على غفلةٍ منهم، فأوقعوا وقتلوا من المسلمين نحوَ 70 شهيدًا، منهم حمزة بن عبدالمطلب عمّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت هزيمةً تأديبيَّة للمسلمين، وتربيةً لهم عن مخالفتهم لقائدِهم - عليه الصلاة والسلام.
أمر القائد مطاع:
وحولَ الدروس المستفادة مِن أُحد، يردِف الشيخ البسام:
العِبر في أُحد كثيرة، منها: وجوب امتثال أمرِ القادة ومهما كانت الظروف؛ فإنَّ أمر القائد لا يُخالف بأيِّ حال من الأحوال، فما كانت الهزيمة هذه إلا بسبب مخالفة هؤلاء الرُّماة لأمر قائدِهم وزعيمهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو ثبتوا مكانَهم ما صار هناك مجالٌ لخيل المشركين أن تكرَّ على المسلمين، وما هي إلاَّ عِبرة وعظة، وهذه القصَّة جاءت في سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 121] إلى آخِر الآيات، فالسورة تعرَّضت لهذه الواقعة، وبيَّنتْ أسباب الهزيمة والفشَل الذي أصاب المسلمين، وبهذا تؤخَذ دروس، ويعلم أنَّ الله يوجه ويربِّي المسلمين خيرَ التوجيه والتربية.
ونُدرك أيضًا مِن معطيات موقعة أُحد وجوبَ اتحاد كلمة المسلمين، وأنَّه يجب أن تكونَ كلمة المسلمين واحدةً، والمسلمون ما أصابهم الفشلُ إلا بالتفرُّق، ولما اختلفتْ كلمتهم وخالفوا أمرَ أميرهم، أصابتِ المسلمين هذه الهزيمةُ، ولو كانت الكلمة واحدة والأمر مطاعًا منفذًا، ما أصاب المسلمين شيءٌ من الهزيمة، فنأخذ مِن هذا أنَّه يجب علينا في حاضرنا الآن أن تكونَ كلمتنا واحدة، وأن ننفذ الأوامرَ التي تصدر إلينا مِن قادتنا وزعمائنا.
الجهاد في الإسلام:
أما الدكتور عبدالصبور مرزوق، فيرَى:
أنَّ الجو العام لفِكرة الجهاد في الاطلاع تقوم في أساسها الأوَّل على إرادة القِتال مِن المسلم نفسه، فإذا قام المسلمُ بوضع نفسه في هذا الإطار؛ إطار ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: 14] إلى آخر الآية الكريمة، كان لهم النصر والغَلبة على الأعداء، ولكن عندما يبعد المسلمُ عن هذا الجوِّ، فإنَّ الأمرَ يتحول إلى نوعٍ من علاقة صراع قوي دون أن يكونَ هناك حاكميَّة لله - سبحانه وتعالى - في القتال.
الحرب خدعة:
ومِن أسبابِ هزيمة المسلمين في غزوة أُحد حدوثُ نوْع من التخاذل أدَّى إلى البحث عن الغنائم مِن بعض الأفراد، فكانتِ النتيجة نكسةً أصابت المسلمين، أدَّتْ إلى تحوُّل المعركة خلالَ فترة زمنية أو جزئية مِن المعركة لصالح المشركين.
ومِن نتائج هذه الغزوة صِدقُ نُبوءة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبذكائه وحِكمته النادرة استطاع في اليومِ التالي أن يحوِّل هذه الهزيمةَ إلى نصر، كذلك تحقيق عنصر المفاجأة، ونتائج أُحد لا تستغلُّ منفصلةً عن نتائج الأحزاب، فهي فترةٌ مليئة بالاضطرابات، انتهتْ بفوز المسلمين واندحار أعدائهم، كما تؤكِّد لنا نتائجُ غزوة أُحد تحقيقَ المبدأ الحربي المعروف "الحرب خُدعة"، كذلك يجيء مِن نتائجها هزيمة نعتبرها مباركةً؛ لأنَّها كشفت نقاط الضعْف في صفوف المسلمين، وهذا درسٌ من الله لهم؛ لكي يمتثلوا أوامر الرسول.
هل انتصر المشركون؟
الدكتور عبدالله بن إبراهيم الطريقى - وكيل كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود - يعرِض وقائع موقعة أُحد قائلاً:
تُعتبر غزوة أحد مِن المعارك الشهيرة التي دارتْ رحاها بيْن: أولياء الله، وأولياء الشيطان.
أما أولياء الله، فهم: المهاجِرون والأنصار، بقِيادة الرسول الأعظم، والقائِد المحنَّك - عليه الصلاة والسلام.
وأمَّا أولياء الشيطان، فكانوا كفَّارَ قريش، بقيادة زعاماتِ الكفر والشرك، وفي مقدمتهم أبو سفيان.
وقد حصلتِ المعركة قربَ المدينة عندَ جبل أحد.
وكانت من جولتين:
أولاهما: انتصَر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا، وغنِموا غنائمَ كبيرة.
ثانيتهما: خسِر فيها المسلمون بعضَ الخسائر المادية، وظهَر فيها المشركون بمظهر المنتصر.
ولكن هذه النتيجة تحتاج إلى شيءٍ من التأمُّل والدراسة؛ فهل كانت نتيجتها انتصارَ المشركين انتصارًا حقيقيًّا، وانهزام المسلمين هزيمة حقيقية.
الواقِع أنَّه قد كثُر الحديث والنِّقاش حولَ هذه النتيجة، وأكثر المؤرِّخين يرَونها انتصارًا للمشركين، ولكن الحقيقة أن ذلك محل لغز إذا تأملنا الآتي:
1- أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - استطاع وهو القائِد العام للمعركة أن يتَّجه بِمَن معه من المسلمين مِن قتْل مستأصل شامل، حيث انحاز إلى مكان آخَر قريب مِن مكان المعركة، استطاع المسلمون من خلاله أن يُعيدوا تنظيمَهم، وأن يدافعوا عن أنفسِهم.
2- أنَّ المشركين بقيادة خالد بن الوليد قد انسحَبُوا بعدَ يأسهم من إبادة المسلمين، يجرُّون أذيالَ القهر والخيبة.
3- أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - استطاع أن يَتتبَّع فلولَ المشركين بعد توقُّف الحرب، بالرغمِ مِن الإنهاك والإجهاد الواقعَينِ للمسلمين.
كل ذلك يجعلنا نميل إلى أنَّ نتيجةِ هذه الغزوة كانت لصالح المسلمين؛ لما حصَل فيها، وإعطاء المسلمين دروسًا عمليَّة في وجوب الالتزام والانضباط، وأخْذ الحيطة والحَذر من عدوِّهم.
هذه هي الأسباب:
أمَّا أسباب هزيمة المسلمين الظاهرة، فهي كثيرةٌ، أهمُّها:
1- عصيان الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - باعتباره نبيًّا يجِب اتِّباعُ أمرِه، وباعتبارِه قائدًا يجب التزامُ أوامره وتوجيهاته.
ذلك أنَّ الرماةَ - وعددهم خمسون فردًا - لم يمتثلوا أمرَ رسولِ الله لهم بالبقاء في الجبَل حين قال لهم: ((إنْ رأيتمونا تتخطفنا الطيرُ، فلا تَبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإنْ رأيتمولنا هَزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تَبرحوا حتى أرسلَ إليكم)).
2- عدم المطاردة: أي عدَم مطاردة الجيش الإسلامي لجيشِ الكُفر بعدَ انتصاره الأول، بل ترَكوهم وأعطوهم فرصةً للمِّ الشمل، وجمْع الصف، وإعادة التنظيم.
3- انشغال المسلمين بجَمْع الغنائم بعدَ النصر في الجولة الأولى، الأمر الذي أتاح للكفَّار وقتًا ثمينًا للتفكير والتدبير.
4- المباغتة مِن الكفَّار، حيث هجَموا هجومًا مباغتًا لم يخطرْ على بال المسلمين، ولا سيَّما أنَّ المسلمين في تلك الحال كانوا آمنين وقد وضَعوا عنهم سلاحَهم.
5- إشاعة مَقْتل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بدءِ الجولة الثانية، حيث صاح الشيطان أنَّ محمدًا قُتِل، الأمر الذي أضعفَ عزيمةَ أكثر المسلمين، وقوَّى عزيمة المشركين.
دروس وعبر:
ويُضيف الدكتورُ الطريقي حولَ الدروس المستفادة قائلاً:
أمَّا كيف نستفيد مِن الدروس والمعطيات الخاصَّة بهذه الغزوة في صِراعنا مع أعدائنا في العصرِ الحاضر مِن اليهود والشيوعيَّة والصليبيَّة الحاقِدة، والمشركين مِن أرباب الديانات الوثنيَّة المختلفة، فإنَّ هذا جديرٌ بالنظر والتأمُّل، فواجبُ المسلمين اليوم، وهم يُعانون التحدِّي والاضطهاد في كثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة، وفي بلاد غير إسلاميَّة كالفلبِّين ودول شرق أوروبا وروسيا وغيرها - إنَّ واجبهم عظيمٌ للغاية، فنحن رأينا في هذه الغزوةِ أنَّ المسلمين حصلتْ لهم النكسة بسببِ أمور، مِن أبرزها:
1- عصيان رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا شكَّ أنَّ معصيته موجبة للانهزام النفسي والمادي، كما قال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
ولا شكَّ أنَّ أعظم العصيان الحُكم بغير ما أنزل الله مِن القوانين البشريَّة الوضعيَّة، والسماح للكُفر والخرافة والبِدعة بالانتشار في المجتمعات الإسلاميَّة، وكذلك ترْك الرذيلة تفشو وتنخر في كيان الأمَّة المسلمة.
2- الانشغال بالدُّنيا وزخارفِها وبهرجِها، مثل ما حصَل مِن المسلمين من الانشغال بالغنائم، حيث حكَى الله عنهم في قوله سبحانه: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152].
ولا شكَّ أنَّ الانغماس في الدنيا ولذَّاتها يفوِّت على المسلمين مصالحَ عظيمة، ويُجرِّئ عليهم عدوَّهم.
3- التنازُع والتفرُّق، حيث كانا سببًا في نكسةِ المسلمين يوم أُحد، حين اختلفَ الرُّماة مع قائدهم عبدالله بن جبير الأنصاري، وخالفوا أمْره وأمْر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
4- أخْذ الحيطة والحذَر من الأعداء؛ وذلك بإعدادِ العُدَّة، والتنظيم العسكري المحكَم الدقيق المستمرّ، كما قال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، بل ولا بدَّ مِن الحَذر من العدوِّ الداخلي، المتمثِّل في المنافقين الذين يتظاهرون بمحبَّة المسلمين وبمحبَّة دِين الإسلام.
5- الصَّبر وعدَم الجزع، فإذا أُصيب المسلمون بخسائرَ ماديَّة؛ مِن تقتيل، أو اضطهاد، أو نقْص في الأموال، فعليهم الصبر وعدَم الجزع، كما قال سبحانه مسليًا المسلمين بعدَ نكسة أحد: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 139 - 140]، ويضرِب الله المثل مِن الأنبياء الصابرين الصادقين، فيقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146 - 148].
ولا شكَّ أنَّ الدروس عظيمة وكثيرة، لا يُمكن حصرُها في هذه العجالة، ونسأل اللهَ تعالى لنا وللمسلمين عامَّة التوفيقَ لتحكيم شرْعه، والاجتماع على الحق ومناصرته، وإبطال الباطِل ومحاربته.
ابتلاء من الله:
والتقينا بفضيلة الشيخ عبدالعزيز المسند - المشرِف على الإدارة العامَّة لتطوير التعليم بوزارة التعليم العالي - وسألناه عن تقويمه لنتائجِ موقعة أُحد وما آل إليه حالُ المسلمين، فأجابنا قائلاً:
آثار أُحد عظيمة، وأسباب هزيمة المسلمين فيها واضحةٌ مِن كلام الله - عزَّ وجلَّ - الذي يُتلَى في القرآن، حيث أخبر ربُّ العزة أنَّه ابتلاهم بعدَ أن كان الأمر لهم، وسرُّ ذلك معروفٌ، وهو أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لقائدِ الرُّماة عبدالله بن جبير: ((لا تَبْرحوا مكانَكم، انتصرنا أم هُزمنا))، وعندَما أصبح النصرُ للمسلمين وأخَذوا يجمعون الغنائمَ وولَّى الكفَّارُ الأدبارَ، قال بعضُ الرماة: إخواننا يجمعون الغنائمَ، ونزَلوا، وثبت أميرُهم وبعض الرُّماة الذين بقُوا على جبل أحد ولم تُغرِهم المادة، وحدَث الابتلاء.
وهذا دليلٌ على أهمية الانضباط في الإسلام؛ حيث إنَّه يجِب طاعة القائد مهمَا كانت الظروف.
هل نحن مثل أهل بدر؟
وعن كيفية الاستفادة مِن الدروس والمعطيات الخاصَّة بموقعة أحد في صِراعنا المعاصر ضدَّ القوى المعادية للإسلام، يقول فضيلته:
يجِب على المسلمين طاعةُ قائدهم والتضامن، وألاَّ تغرهم الدنيا ولا ينخدعوا بمظهرها البرَّاق والكسب السريع؛ حتى يحقِّقوا النصر الكامل.
وإنَّني أرى أنَّ غزوة أحد يجب أن تكونَ درسًا للمسلمين عندما تبدو إشارة الحرب، فيجب أن يقوِّموا أنفسَهم ويعرفوا جنودَهم، فيُقيِّم القائد كلَّ جندي بمقدار إيمانه وثباته وطاعته؛ لأنَّ خطأ عدد قليل مِن المسلمين جرَّ عليهم جميعًا الويلات، فابتلاهم الله بالأمْر العظيم، وهو البلوى بالقتْل؛ حيث قُتِل منهم سبعون رجلاً، فهذه بليةٌ يجب ألاَّ ينساها المسلمون دومًا، ويدخلوا الحرب وهم مستعدُّون، ويدركوا نتائج كلِّ تصرف يمكن أن يقدموا عليه.
ويُضيف فضيلته:
أمَّا بالنسبة لصِراع المسلمين المعاصر مع الصِّهيونيَّة، فيجب أن نؤكِّد على حقيقةٍ هامَّة، مفادها: أنَّ مسلمي اليوم ليسوا كما يُريدهم الله - عزَّ وجلَّ - ولو كانوا مِثل أهل بدر، لحصَل النصرُ لا محالة كما وعَدَ الله - عزَّ وجلَّ.
ومِن الصفات المفقودة في مُسلِمي اليوم الجهادُ في سبيلِ الله بنيَّة خالِصة، وتحت شعار "إمَّا النصر أو الشهادة"، وأؤكِّد مرةً أخرى: لو عُدْنا إلى الله، لتحقَّق النصر.
إستراتيجيات أُحد:
وحولَ إستراتيجيَّات الموقعة، يقول الدكتور أحمد حسن الفقي - رئيس قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الملك عبدالعزيز -:
تُعتبر معركةُ أحد ذاتَ أهمية كبرى في التاريخ الاسلامي، كما أنَّها أَحد الحلقات الخَطرة مِن حلقات الصراع بين المسلمين والمشركين، وعلى هذا فإنَّ دراسة هذه المعركة تحتاج إلى وقفةٍ متأنية فاحِصة، ومدقّقة واعية؛ فهي معركةٌ كان الهدف الأساسي منها رغبةَ قريش في الثأر مِن المسلمين لقتلاهم في بدر، وتحتَ هذا الهدف بالطبع هذه المعركة لم تكُن بين قريش والمسلمين فقط، وإنما كانتْ بين المسلمين وقريش وأحلافِها من بني مالك بن كنانة وأهل تهامة؛ أي: إنَّ هذه المعركة قد وسَّعت الصراع الذي تعدَّى قريشًا.
ولو دقَّقنا لنعرف إستراتيجياتِ هذه المعركة، فإنَّنا نلاحظ الآتي:
أولاً: أنَّ القوة بين الطرفين لم تكُن متعادلة، بل كانتْ في صالح قريش وأحلافها، فقدْ كان عددُ محاربي المشركين ثلاثة آلاف رجل إضافة إلى فريق التشجيع والحماس النِّسائي، بينما كان عددُ المسلمين سبعمائة راجلٍ فقط.
ثانيًا: عَمل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القائد الأعْلى للمسلمين على الاستفادة مِن الإمكانيات الطبيعيَّة والبشريَّة المتاحة له آنذاك، ويذكر بعض المؤرِّخين أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان لا يرغَب في الخروج مِن المدينة، وكان يَكْره ذلك، وحينما عقَد مجلس المشاورة مع المسلمين كان الحماس يدفعهم إلى ملاقاةِ أعداء الله، فطالبوا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخروج، بينما أشار عليه عبدالله بن أُبيِّ بالبقاء في المدينة وعدَم الخروج منها، وقال لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أقِم بالمدينة ولا تخرج إليهم، ووالله ما خرجْنا منها إلى عدوٍّ لنا قط إلا أصابَ منا، ولا دخَل علينا إلا أصبْنا منه"، وأخَذَ الرسول برأي الأغلبية الداعية إلى الخروج، وأمر بالاستعداد للخروج وملاقاة أعداءِ الله، وكان ذلك بعدَ صلاة الجمعة.
وعقد ثلاثة ألوية: لواء الأوس، وعُقدت إلى أسيد بن حُضير، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر بن الجموح، وقيل: إلى سعد بن عبادة، ولواء المهاجرين إلى عليِّ بن أبي طالب، وقيل: إلى مصعب بن عمير، واستخلَف على المدينة عبدالله بن أمِّ مكتوم.
ثالثًا: حينما وصَل الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجموع المسلمين إلى ميدان المعركة بأُحد، أمَر بأن يكون جبلُ أُحد خلفَ ظهورهم والمدينة قِبلتهم. كان أن عيَّن عبدالله بن جبير أميرًا على طريقِ الرماة، وكان عددهم خمسين رجلاً، وأصدر إليهم تعليماتِه بالمرابطةِ على جبل "عينين" موجهًا الأمْر لأميرهم: ((انضحِ الخيل عنَّا بالنبل؛ لا يأتونا مِن خلفنا، إنْ كان لنا أو علينا، فاثبتْ مكانك؛ لا نؤتينَّ مِن قبلك))، وهذه التعليمات وهذا التوجيه مِن قائد المسلمين يُعتبر عملاً عسكريًّا غاية في الأهمية، وإستراتيجيَّة دقيقة وممتازة؛ فهي عبارة عن حمايةٍ لظهور المقاتلين المسلمين وصدّ الخيل عنهم، والتي كان لقريش منها مائة ضروس، بينما لم يكُن لدَى المسلمين منها شيء، (وإن كانت بعض الروايات تُشير إلى وجودِ فرسين فقط لديهم).
أطوار المعركة:
ودارتِ المعركة بيْن الفريقين قويةً قاسية مع طلوعِ فجْر السبت، وكان لهذه المعركة طوران:
الطور الأول: تمكَّن فيه المسلمون مِن هزيمة قريش وحلفائها بعِددهم الكثير وعُدَّتهم الوفيرة؛ وذلك لأنَّ المحاربين المسلمين قد نَفَّذوا بدقة كاملة تعليماتِ قائدهم رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهكذا كان للطاعةِ وتنفيذ التعليمات بإخلاص ثمرةٌ واحدة، هي النصر، وأخَذ المسلمون يلاحِقون فلولَ قريش، وهنا يبدأ الطورُ الثاني في المرحلة الثانية في القِتال، وذلك حينما بدأ معظمُ فريق الرماة يتحرَّك مِن مكانه؛ طمعًا في الغنيمة، وظنًّا منه أنَّ النصر قد تَم نهائيًّا للمسلمين، تاركين التمسُّكَ بتعليمات وأوامر قائدهم، وهنا استغلَّتْ قريش هذه الثغرةَ في دفاعات المسلمين، فاندفعتْ خيلهم تفتكُ بالمسلمين من خلف ظهورِهم.
وتَغيَّرتْ موازين القتال، وتحوَّل نصر المسلمين السابق إلى ارْتباك وفوْضى، ثم إلى هزيمة، وصار الوضع أكثر تدهورًا حينما صاحَ الشيطان بأنَّ محمدًا قد قُتِل، ممَّا زاد في ارتباك المسلمين، وأخذوا يقتلون بعضهم بعضًا وهم لا يشعرون، وانهزمتْ طائفة منهم وتفرَّق البقيةُ، وأُصيب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتدفَّق الدم مِن وجهه الكريم، وثبَت معه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر، وانتهتِ المعركة بفوز مؤقَّت لقريش.
رابعًا: لقدْ ظَهَر قبل المعركة وخلالها وبعدَها عددٌ مِن الأمور الهامة، هي:
1- أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغم قلَّة عددِ رِجاله، فإنَّه لم يسمحْ لصغار السنِّ بالمشاركة في القِتال، وردَّ الكثيرَ منهم إلى المدينة.
2- أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رفَض مشاركة المشركين معه في القِتال، فقال: ((قولوا لهم فليرجعوا؛ فإنَّا لا نستعين بالمشركين على المشركين)).
3- أنَّ "أبا دجانة" الذي أعطاه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيفَه لم يقتلْ به امرأةً رغم أنَّه كان في إمكانه وضعُ السيف على رقبة هند بنت عتبة وفريقها، الذي كان يُردِّد أناشيد الحماس وحثّ المقاتلين على مقاتلةِ المسلمين، وقال أبو دجانة بأنَّه كَرِه أن يضربَ بسيفِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - امرأة لا ناصرَ لها.
ولو أردْنا أن نحدِّد الأسبابَ الحقيقية للهزيمة التي لحِقَتِ بالمسلمين في أُحد، فإنَّنا نستطيع القول بأنَّ سببَ الهزيمة الحقيقي أو الرَّئيسي بعدَ إرادة الله - هو مخالَفة الرُّماة لأمْر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وترْكهم موقعهم الذي انقضَّ منه المشرِكون على ظهورِ المسلمين، وبِسلاح لا يَملك المسلمون مثيلاً له، ألاَ وهو سلاحُ الفرسان.
مفاتيح النصر:
ويستطرد الدكتورُ الفقي متناولاً الدروس المستفادة مِن موقعة أُحد، فيقول:
لكي نستفيدَ مِن دروس موقعة أحد، فإنِّي أُؤكد بأنَّ الطاعة دومًا هي قِمَّة كل أمر، وهي مِفتاح كلِّ نجاح ونصر، بدءًا بطاعة الله ورسوله ثم وليِّ الأمر، ونزولاً حتى أصغر رئيس يعلوه بمرتبةٍ واحدة، ويَلي الطاعةَ التخطيطُ السَّليم، والاستفادة مِن كلِّ المعطيات، أرضًا وبشَرًا ومناخًا، ومناورةً وحركة، وكمَا أوضحتُ لقدْ كان عددُ المسلمين أقلَّ من ثلث عدد المشركين، ومع ذلك فقد كانت الجولةُ الأولى مِن القتال نصرًا باهرًا للمسلمين، ولكن في الجولة الثانية انتكس المسلمون، وهذه لم تكن بسببِ عدم تكافؤ القوَّة، بقدْر ما كانتْ نتيجة للإهمال مِن قِبل فريق الرُّماة لتعليمات القائد.
وخُلاصة القول: فإنَّ الصبر والإيمان بالهدَف، والثقة بالقيادة وطاعتها وتنفيذ تعليماتها بدقَّة، وعدم تَصديقِ الشائعات التي قدْ تسبب في حالِ تصديقها الحطّ مِن العزيمة والاندفاع، والتقليلإنْ لم يكن الإجهاض على فُرَص النصر.
وفي اعتقادي أنَّ أمَّتنا الإسلامية الكريمة لو عمِلتْ بكلِّ معطيات تاريخها الإسلامي بما فيه مِن أمجادٍ وقوَّة وإيمان وتصميمٍ على الحق، لكُتِب لها النصرُ، وهو لها - بإذنِ الله عزَّ وجلَّ.
د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
الالوكة
ihab- عضو نشيط
- عدد المساهمات : 433
التقييم : 0
احترام قوانين المنتدى :
رد: موقعة أحد.. هل حقًّا هزم فيها المسلمون؟
موضوع رائع
بارك الله فيك
بارك الله فيك
سنشي كودو- عضو سوبر
-
عدد المساهمات : 1185
التقييم : 0
العمر : 34
احترام قوانين المنتدى :
رد: موقعة أحد.. هل حقًّا هزم فيها المسلمون؟
شكرا لك اخي
واصل ابداعك
جزاك الله كل خير
يعطيك العافية
♥♥♥
واصل ابداعك
جزاك الله كل خير
يعطيك العافية
♥♥♥
امير الاحزان- عضو سوبر
-
عدد المساهمات : 1854
التقييم : 3
احترام قوانين المنتدى :
رد: موقعة أحد.. هل حقًّا هزم فيها المسلمون؟
شكراا لك ... ’,,,
huss9898ien- عضو سوبر
- عدد المساهمات : 1758
التقييم : 0
احترام قوانين المنتدى :
مواضيع مماثلة
» اخطاء يقع فيها المسلمون يوميا ولاحول ولاقوه الا بالله
» التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها
» المسلمون شركاء
» المسلمون شركاء
» 13759: المسلمون ونظرة الناس لهم
» التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها
» المسلمون شركاء
» المسلمون شركاء
» 13759: المسلمون ونظرة الناس لهم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى