سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة
بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة [1]
(1)
لعلّ من حكمة العليم الحكيم : أنَّ ثمة أخطاء ترتكب ، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة ، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم ..
وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس ، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري ، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح . وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر .. نعم كان لها ضحايا .. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة ، وبقاء الحق متوارثا بصفاء ، ولو خلى الزمان ممن يطبقه .
ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل ، لا حباً لإثارته – معاذ الله – ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع ، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة ، فأحيته في النّاس على جميع المستويات .
يقول جوستاف لوبون : " إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها " [2].
ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً ، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة ، غاية ما توصف به أنَّها : أفكار وحديث نفس عارض ، وقد يصحبه – في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية ، في سياق تقعّر – لا تعمّق - في الطرح ، وتكلف في التقسيم ؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت ، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال !
والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية ، لا تكاد تخلو من تلبيس – قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر .. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات ، ومن أصول ذلك : الردّ إلى المحكمات ، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة ..
وقبل بضعة عقود ، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار ، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار ، كان من بينها : فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة) ؛ زُعِم أنَّها من الإسلام ، وليست منه في شيءٍ !
وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده ، عددٌ من علماء الشريعة ، وأهل السياسة من عربٍ وعجم ، وشرق وغرب ، وأساتذة قانون من أهل الإسلام ؛ في عشرات المصادر ، وما لا أحصي من المراجع ، و المقالات .
وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه ، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة " التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية ( أو السياسية) "[3]؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله.
وهذه الجرثومة عينها ، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري رحمه الله بالتطفَّل للأمم ، الذي يورث الوهن في العقيدة !
(2)
وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع ، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة ؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك : التفريق بين مسألتين : الأولى : معنى السيادة . والثانية : نظريات السيادة . وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة ، ودراسات كثيرة . غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا ، هو الأول ، أعني : معنى السيادة .
فما معنى السيادة ؟ وما الموقف الشرعي من معناها ؟
وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي –أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين[4] :
الأول : سيادة الدولة ؛ و الثاني : السيادة في الدولة .
فسيادة الدولة : صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات ؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها . وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها . وليست هذه محل الحديث هنا .
وأمَّا السيادة في الدولة : فهي التي تعنينا ، وهي محل الحديث في موضوعنا .
وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر ، هو المفكّر الفرنسي جان بودان Jean Bodin [5] . فقد ألف كتاباً بعنوان : "ستة كتب عن الجمهورية" نشره عام1576م ، عرّف فيه السيادة بأنَّها : " سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون " .
وفي توضيحه لمعنى السيادة ، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم ؛ " فالسيد أو صاحب السيادة ، هو من كانت سلطته دائمة . أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة ؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة ؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها " [6].
ومن خصائص السيادة لديه : أنَّها مطلقة ، لا تخضع للقانون . وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين ، دون موافقة الرعايا [7].
ومن خصائصها : أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى[8] .
وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى . حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات . وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي : " السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها " [9] .
وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز ، إذ وضح أنَّها : " سلطة عليا متميزة وسامية ، ليست في القمة بل فوق القمة ، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه ؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة ، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها ، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض " [10] .
ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة ، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة ، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي ، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية ؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية [11] ؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب " العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو ، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته ؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي : سيادة الأمّة ، وسيادة الشعب .
والذي يهمنا هنا كما أسلفت ، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي ، لا بغيره ؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس ؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما ، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة ، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته ، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد ، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى ، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته .
وبعبارة أخرى : أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه ، فهنا في الأمر سعة . وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه ، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه .
وعليه فخلاصة القول هنا : أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم ، تعني في أصل فكرتها : السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة ، وسلطة الحكومة بسلطاتها ، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور ، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع .
وممن عرفها بلغة الشرعيين ، الدكتور صلاح الصاوي ، إذ قال : " السيادة هي : السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال " [12] .
(3)
وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها ؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح : تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام ، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص ؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا ، تتمثل في : كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة :
الأول : أنَّ السيادة ونظريات السيادة ، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة ، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة ، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب ؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي ، " غير قابلة لأي حلّ بشري ! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية – أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى " [13].
ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه : " إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر ، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة ، وهي : النظرية الدينية ، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله ؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي ، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة ؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر " [14] .
الثاني : أنَّ سلطة السيادة مطلقة ؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود ؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية ، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبدالكريم، الذي يقول " ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية– تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني،ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون .
أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية ، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة ، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي ؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه . وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها " .
الثالث : من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة ؛ فإنَّ " نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح ، تأبى أي تقييد للسلطة ، ولا تعرفه ، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود ؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة ؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد .
أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية ، فإنَّ الوضع مختلف ، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد ؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد ... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين : يتمثل أولهما في الشورى ، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة . ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام ، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك "[15] قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : ( دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ؛ فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا . وأن لا ننازع الأمر أهله . قال (( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)) ) رواه الشيخان .
ومن له معرفة بالنظام الإسلامي ، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي ، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل :
مبدأ المشروعية العليا ، و الحاكمية ، و الشرعية العليا ، والحكم بما أنزل الله ؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين ، بل ولدى عموم المسلمين .
(4)
ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة ؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية .
والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها ! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية ؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام ، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها[16] ، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها .
وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ بعضها للمتقدمين ، وبعضها للمعاصرين .
فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال : قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره : " قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس : عربهم وعجمهم ، ملوكهم وزهادهم ، وعلمائهم وعامتهم ؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة ، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين ، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات ؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته .. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... فكيف بمن دونهم ، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام : أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى ؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره ، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل ؟! " [17] .
ومنها قول ابن القيم رحمه الله : " والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر .
وإن اعتقد أنَّه غير واجب ، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر . وإن جهله و أخطأه ، فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين " [18] .
وقال ابن أبي العز الحنفي : " ... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنَّه مخير فيه ، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر " [19] .
ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة .
ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال : قول الشيخ محمد شلتوت رحمه الله : " العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة ، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة ، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة ، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة ؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس ، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية ، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها ، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس .
وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة ، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة ، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين .
وعليه فمن آمن بالعقيدة ، وألغى الشريعة ، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله ، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة " [20] .
ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة ، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله : " هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة) ، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام ، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها ، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي .
وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة ، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية .
ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين ، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته!
وأعتقد أنَّ من هذه الأمور : أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، للتبرك بها ، أو لقراءتها على الموتى ! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران ؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ ، وتحكم علاقات الناس ، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه ، وحكمه وشرعه .
وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن منهاجا ؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله : سمعنا وأطعنا ، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة " [21] ؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: " كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله " .
سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة [1]
(1)
لعلّ من حكمة العليم الحكيم : أنَّ ثمة أخطاء ترتكب ، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة ، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم ..
وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس ، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري ، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح . وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر .. نعم كان لها ضحايا .. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة ، وبقاء الحق متوارثا بصفاء ، ولو خلى الزمان ممن يطبقه .
ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل ، لا حباً لإثارته – معاذ الله – ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع ، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة ، فأحيته في النّاس على جميع المستويات .
يقول جوستاف لوبون : " إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها " [2].
ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً ، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة ، غاية ما توصف به أنَّها : أفكار وحديث نفس عارض ، وقد يصحبه – في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية ، في سياق تقعّر – لا تعمّق - في الطرح ، وتكلف في التقسيم ؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت ، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال !
والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية ، لا تكاد تخلو من تلبيس – قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر .. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات ، ومن أصول ذلك : الردّ إلى المحكمات ، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة ..
وقبل بضعة عقود ، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار ، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار ، كان من بينها : فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة) ؛ زُعِم أنَّها من الإسلام ، وليست منه في شيءٍ !
وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده ، عددٌ من علماء الشريعة ، وأهل السياسة من عربٍ وعجم ، وشرق وغرب ، وأساتذة قانون من أهل الإسلام ؛ في عشرات المصادر ، وما لا أحصي من المراجع ، و المقالات .
وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه ، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة " التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية ( أو السياسية) "[3]؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله.
وهذه الجرثومة عينها ، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري رحمه الله بالتطفَّل للأمم ، الذي يورث الوهن في العقيدة !
(2)
وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع ، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة ؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك : التفريق بين مسألتين : الأولى : معنى السيادة . والثانية : نظريات السيادة . وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة ، ودراسات كثيرة . غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا ، هو الأول ، أعني : معنى السيادة .
فما معنى السيادة ؟ وما الموقف الشرعي من معناها ؟
وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي –أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين[4] :
الأول : سيادة الدولة ؛ و الثاني : السيادة في الدولة .
فسيادة الدولة : صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات ؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها . وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها . وليست هذه محل الحديث هنا .
وأمَّا السيادة في الدولة : فهي التي تعنينا ، وهي محل الحديث في موضوعنا .
وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر ، هو المفكّر الفرنسي جان بودان Jean Bodin [5] . فقد ألف كتاباً بعنوان : "ستة كتب عن الجمهورية" نشره عام1576م ، عرّف فيه السيادة بأنَّها : " سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون " .
وفي توضيحه لمعنى السيادة ، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم ؛ " فالسيد أو صاحب السيادة ، هو من كانت سلطته دائمة . أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة ؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة ؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها " [6].
ومن خصائص السيادة لديه : أنَّها مطلقة ، لا تخضع للقانون . وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين ، دون موافقة الرعايا [7].
ومن خصائصها : أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى[8] .
وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى . حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات . وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي : " السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها " [9] .
وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز ، إذ وضح أنَّها : " سلطة عليا متميزة وسامية ، ليست في القمة بل فوق القمة ، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه ؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة ، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها ، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض " [10] .
ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة ، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة ، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي ، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية ؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية [11] ؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب " العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو ، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته ؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي : سيادة الأمّة ، وسيادة الشعب .
والذي يهمنا هنا كما أسلفت ، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي ، لا بغيره ؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس ؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما ، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة ، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته ، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد ، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى ، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته .
وبعبارة أخرى : أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه ، فهنا في الأمر سعة . وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه ، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه .
وعليه فخلاصة القول هنا : أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم ، تعني في أصل فكرتها : السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة ، وسلطة الحكومة بسلطاتها ، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور ، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع .
وممن عرفها بلغة الشرعيين ، الدكتور صلاح الصاوي ، إذ قال : " السيادة هي : السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال " [12] .
(3)
وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها ؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح : تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام ، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص ؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا ، تتمثل في : كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة :
الأول : أنَّ السيادة ونظريات السيادة ، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة ، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة ، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب ؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي ، " غير قابلة لأي حلّ بشري ! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية – أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى " [13].
ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه : " إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر ، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة ، وهي : النظرية الدينية ، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله ؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي ، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة ؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر " [14] .
الثاني : أنَّ سلطة السيادة مطلقة ؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود ؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية ، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبدالكريم، الذي يقول " ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية– تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني،ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون .
أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية ، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة ، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي ؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه . وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها " .
الثالث : من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة ؛ فإنَّ " نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح ، تأبى أي تقييد للسلطة ، ولا تعرفه ، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود ؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة ؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد .
أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية ، فإنَّ الوضع مختلف ، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد ؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد ... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين : يتمثل أولهما في الشورى ، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة . ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام ، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك "[15] قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : ( دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ؛ فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا . وأن لا ننازع الأمر أهله . قال (( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)) ) رواه الشيخان .
ومن له معرفة بالنظام الإسلامي ، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي ، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل :
مبدأ المشروعية العليا ، و الحاكمية ، و الشرعية العليا ، والحكم بما أنزل الله ؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين ، بل ولدى عموم المسلمين .
(4)
ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة ؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية .
والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها ! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية ؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام ، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها[16] ، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها .
وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ بعضها للمتقدمين ، وبعضها للمعاصرين .
فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال : قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره : " قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس : عربهم وعجمهم ، ملوكهم وزهادهم ، وعلمائهم وعامتهم ؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة ، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين ، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات ؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته .. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... فكيف بمن دونهم ، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام : أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى ؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره ، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل ؟! " [17] .
ومنها قول ابن القيم رحمه الله : " والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر .
وإن اعتقد أنَّه غير واجب ، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر . وإن جهله و أخطأه ، فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين " [18] .
وقال ابن أبي العز الحنفي : " ... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنَّه مخير فيه ، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر " [19] .
ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة .
ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال : قول الشيخ محمد شلتوت رحمه الله : " العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة ، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة ، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة ، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة ؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس ، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية ، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها ، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس .
وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة ، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة ، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين .
وعليه فمن آمن بالعقيدة ، وألغى الشريعة ، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله ، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة " [20] .
ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة ، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله : " هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة) ، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام ، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها ، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي .
وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة ، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية .
ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين ، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته!
وأعتقد أنَّ من هذه الأمور : أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، للتبرك بها ، أو لقراءتها على الموتى ! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران ؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ ، وتحكم علاقات الناس ، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه ، وحكمه وشرعه .
وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن منهاجا ؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله : سمعنا وأطعنا ، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة " [21] ؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: " كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله " .
مواضيع مماثلة
» سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )
» من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة
» إيمان الأمة قبل تطبيق الشريعة ردًا على نظرية: "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"
» الليبراليون الخُدَّجْ ولوازم القول بأن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة
» ما هي الشريعة ؟
» من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة
» إيمان الأمة قبل تطبيق الشريعة ردًا على نظرية: "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"
» الليبراليون الخُدَّجْ ولوازم القول بأن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة
» ما هي الشريعة ؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى