علاقة الأمة بتطبيق الشريعة ... قراءة تأصيلية
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
علاقة الأمة بتطبيق الشريعة ... قراءة تأصيلية
أقصد في هذا المقال الوقوف مع الشعار الذي ظهر به أصحاب ظاهرة المقابلة بين سيادة الأمة وتطبيق الشريعة , لنتحقق من صحته ومدى مطابقته للشريعة
أما بعد :
في حالة الانتفاضة الجماعية المباركة من قبل الأمة ومفكريها وأفرادها على الاستبداد الذي قهر الأمة وعبث بحياتها , تشكلت بعض العبارات والمقالات التي عدت تصاغ على شكل شعارات تختزل تحتها الكثير من المعاني .
ومن تلك العبارات التي أضحت من أشهر ما طرح في النوادي الفكرية عبارة " الحرية قبل تطبيق الشريعة " وتظهر تارة بصورة أخرى وهي " سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة" .
وقد ثارت حول تلك المقالة حوارات مطولة , واختلفت الآراء في تقييمها , واحتدمت النقاشات في الموقف منها .
ولأجل هذا قامت بعض المحاولات التحسينية وسعت إلى تغيير صياغتها لتبدو مناسبة ولطيفة , ومنها قول بعضهم :"الحرية طريق لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :"سيادة الأمة مقدمة لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :" الحرية /سيادة الأمة شرط لتطبيق الشريعة" .
وهذا الحالة الاختلافية العنيفة مؤشر قوي في حد ذاته على أن تلك المقولة ليست سوية ولا منضبطة في نفسها ومدلولها .
ولكن قبل الحكم بالجزم على تلك المقولة . وقبل أن نبادر إلى قبولها أو رفضها دعونا نقوم بمزيد من التحليل والدخول في الأعماق لنتحقق من مدى صحة تلك المقالة ومدى انضباطها في نفسها ومدى انسجامها مع المقتضيات الشرعية .
وإذا رمنا الوصول إلى تلك الغاية علينا أولا أن نلتزم بالعقلانية والموضوعية الصارمة , التي لا تتسامح أبدا في أن يمر من خلالها أي شيء غير متصف بالإتقان والانضباط , وأن نحرص حرصا بالغا على الهدوء في التحليل والاتزان في تحديد المناطات المؤثرة , وأن نكون مستحضرين للنصوص الشرعية التي تمثل بالنسبة لنا نحن المسلمين القاعدة الصلبة التي ننطلق منها في بناء تصوراتها وأفكارنا = حتى تكون أحكامنا منضبطة ومستقة مع نفسها ومع أصول شريعتنا .
وإذا رجعنا إلى تلك المقالة وأدخلناها في مختبراتنا التحليلية , فأنا نجد أنها من أولها إلى آخر غارقة في الإجمال والاشتباه والإبهام .
فإنه يستوقفنا في أول مراحل التحليل الإجمال والاشتباه المشهور في لفظة الحرية والسيادة , فهذه المصطلحات تعد من أشهر المصطلحات غموضا وإشكالا في الوسط الفكري , وقد اعترف بذلك عدد من المفكرين العرب وغيرهم .
وإذا تجاوزنا ذلك لشهرته فإن نجد لفظ "القبلية" هو الآخر يحتمل معاني عديدة , فإنه يحتمل القبلية المرجعية ويحتمل القبلية المصدرية ويحتمل القبلية التنفيذية التطبيقية .
والحال يتكرر في لفظ الأمة , فإنه قد يراد به كل الأمة وقد يراد به الأمة في دولة من الدول , وقد يراد به صنف من الأمة كالعلماء أو من عدا الحكام الظلمة .
وكذلك الحال في لفظ تطبيق الشريعة فإنه يدخل تحته أصناف من التطبيق مختلفة في طبيعتها وحكمها وشروطها , وفي نفس الوقت يحتمل أن يكون المراد بالتطبيق الكامل أو الناقص , وتحتمل أن يكون المراد به التطبيق الاختباري أو الإلزامي .
وهذه الإجمالات المتراكمة بعضها فوق بعض يجعل من الصعب جدا إصدار حكم واحد أو موقف منضبط على مثل هذه المقالة .
وسأحاول أن أقوم بقراءة تأصيلية انطلق فيها من أشد الأوصاف تأثيرا وأشدها التصاقا بالنظرة الشرعية في حكم تلك المقابلة , وهو وصف "تطبيق الشريعة" , ولست مهتما هنا بالبحث في قضية كون هذا التركيب"تطبيق الشريعة" تركيب شرعي أو أثري , ولا بالبحث في تاريخ استعماله , وإنما الهدف البحث في المعاني التي يمكن أن تحت لفظ "الشريعة" ؛ حتى نتجقق من علاقة الأمة بتطبيق الشريعة , وهل هي قائمة على اختبار الناس لها أم على القدرة والإمكان .
فإن الشريعة كمصطلح شرعي وعلمي يشمل أصنافا كثيرا جدا , ومنها :
النوع الأول : العبادات القلبية , الخشية والخوف والرجاء والمحبة والإنابة والخضوع والتوكل وغيرها , فهذا الصنف من الشريعة واجب على كل العباد , أفرادا وجماعات , ويمكن تطبيقها حتى في حالة الاستبداد , لأنه لا سلطة لأحد عليها إلا لله تعالى , ولا يصح إخراجها من الشريعة ؛ لأنها جزء من أهم أجزائها .
النوع الثاني : الواجبات العينية , التي تجب على كل مسلم , وهي كالصلاة والصيام والحج , فهذا النوع من الشريعة الأصل فيه الوجوب , ويجب على المسلم أن يقوم بعضها حتى في حالة الاستبداد , فالصلاة واجبة على المسلم حتى ولو كان مسجونا أو على منصوبا منصبة الشنق , فإنه يجب عليه أن يصلي ولو إيمانا .
ولهذا فإن الشريعة أوجبت هذه العبادات على العبيد والرقيق , مع أنهم فقدوا حريتهم وخضعوا نوعا من الخضوع لإنسان آخر , ولم تقل الشريعة إن تحقيق السيادة قبل تطبيق هذا النوع من الشريعة .
النوع الثالث : حفظ نصوص الشريعة وتعلم أحكامها , وهذا النوع من الشريعة من فروض الكفايات , وهو واجب على علماء الأمة وطلاب العلم فيها , ويمكن للأمة أيضا أن تقوم بهذا النوع من الشريعة الواجب عليها حتى مع الاستبداد , فإن العلوم الإسلامية قامت في دولة بني أمية وبني والعباس وخرج علماء كبار في الدولة الأموية في الأندلس وفي الدول الأخرى التي قامت في العالم الإسلامي , وكذلك خرج علماء كبار في عصرنا الحاضر , ولم يكن الاستبداد أو فقدان الأمة لسيادتها حائلا لكل العلماء من الوصول إلى حكم الشريعة أو تعلمها , فإنه لم يزل في الأمة من العلماء من يصدع بالحق ولم يتأثر بالسياسي , ووجود بعض من دخل عليه التأثر لا يؤثر على استقلال الآخرين .
النوع الرابع : تطبيق الحدود والتعزيرات , وهذا النوع من الشريعة ربطه كثير من علماء الإسلام بوجود الحكومة والدولة , ولكن لم لو توجد حكومة ودولة فإنه يجب على الأمة أن تنصب من ينفذ تلك الأحكام نيابة عنها , وإن وجدت حكومة لا تطبق حدود الله , فإنه يجب على الأمة أن تسعى إلى تغيير هذا المنكر وإزالة كل من يقف في طريق تطبيق ذلك الحكم .
النوع الخامس : الدفاع عن الشريعة ضد أعداها المتربصين , وهذه الحالة تعد من الأنواع التطبيقية للشريعة , ويمكن للأمة أن تطبيق هذا الحكم حتى في حالة الاستبداد , فلو افترضنا أن عدوا أغار على بلاد المسلمين ليزيل معالم الإسلام فإنه يجب على الأمة الدفاع حتى ولو كانوا تحت سلطة مستبدة ولو لم ترض تلك السلطة .
النوع السادس : تعيين من يسوس حياة المسلمين وينظم دنياهم ويساعدهم على تطبيق دينهم , وهذا النوع من أنواع الشريعة الواجبة على الأمة , وكذلك يجب عليهم مراقبته ومحاسبته , فكما أنه يجب على الأمة تعيين حاكم ينوب عنها , فكذلك يجب عليها القيام بمراقبته ومحاسبته , فهما واجبات شرعيان لا بد من القيام بهما .
وتطبيق هذا الواجب الرقابي – الذي هو نوع من الشريعة - هو في الحقيقة من أقوى الطرق والضمانات التي تحقق للأمة سيادتها وحريتها بحيث لا يستطع من فقد عدله وأمانته من الحكام أن يستأثر بأموال الأمة ولا يعبث بمقدارتها وحياتها .
ولو أردنا أن نأخذ من هذا التقرير عنوانا وشعارا لقلنا :" تطبيق الشريعة قبل سيادة الأمة " أو لقلنا " تطبيق الشريعة مقدمة لسيادة الأمة " .
وهذه بعض أشهر الأصناف التي يحتملها مصطلح "تطبيق الشريعة "هناك أصناف أخرى يمكن أن تدخل تحت تطبيق الشريعة .
ويبدو من التحليل السابق , أن بعض تطبيق الشريعة غير مرتبط بسيادة الفرد ولا الأمة في وجوبه وتطبيقه , وإنما يجب ويطبق حتى مع فقدان السيادة , وبعضها منفصل في تحقيقه عن السيادة , واستطاعت الأمة أن تقوم به حتى مع وجود المستبد , وبعضها يعد مقدمة وشرطا في تحقيق السيادة للأمة أصلا , ويبدو لنا أن الأمة يجب عليها أن تطبيق الشريعة , وتلزم بتنفيذ أحكامها على المتعدين والمتعدين وغير القالبين لحكمها , ما دام الإمكان موجودا , فإذا فقد الإمكان والقدرة , فإن الواجب أن تسعى الأمة إلى تخفيف الانحراف بأس طريق يوصل إلى ذلك ما لم يكن مخالفا لقطعياتها .
وبهذا التفكيك لتلك المقولة يظهر لنا مقدار الإجمال والتعميم الذي وقع فيها , واتضح لنا أنها محملة بتعميم ضخم وإطلاق واسع اختفت معه الحدود الفاصلة المؤثرة في الأحكام , حتى غدا من الصعب أن تشرح ما تتضمنه من معاني إلا في صفات عديدة .
وإذا استحضرنا مع الإجمال في المكونات الأخرى , وهي الحرية والسيادة والقبلية , فإن الخطب يزداد خطورة والموقف يزداد تأزما , لأن بعض المعاني التي تحتملها تلك الألفاظ متنافية مع أصول الشريعة وقطعياتها , ولا يمكن لأي مسلم أن يقبلها .
والعبارات التي من هذا القبيل لا يصح أن يعتمد عليها في بيان التصورات الشرعية الكبيرة , ولا يصح عقلا ولا منهجا ولا شرعا أن تجعل شعارا تختزل تحته المشاريع الإصلاحية .
ومن اعتمدها لتكون له شعارا لمشروعه أو عنوانا لتصوراتها , فهو مظنة لوقوع الخطأ والابتعاد عن إدراك الصواب بشكل واضح , ويحسن بنا في هذا السياق أن نتذكر المدرسة الكلامية , فإنها مشروع ضخم قام على عبارات ومقالات مجملة غير بينت المعالم والحدود , ومن أشهر ما كان شعارا لها مقولة " العقل قبل النقل " أو "العقل مقدم على النقل , وهي تعني فيما تعنيه من المعاني أن "العقل مقدم على تطبيق الشريعة " , وقد تطور هذا الشعار حتى صار من أقوى الأسباب في الابتعاد عن الشريعة وتعظيم نصوصها , ومن أقوى الأسباب التي صرفت الناس عن فهم الصحابة ومنطلقاتهم , وتكونت حوله مفاهيم عديدة غدت هي المتحكمة في بناء التصورات العقدية .
وهذا الحال يدعونا إلى أن نقول إن استعمال هذه المقالة في تصوري الحقائق الشرعية غير صحيح ؛ لأنها متضمة لمعاني لا يقبل أن تقبل في شرعنا , وقد اتخذت طريقا ومنفذا لتمرير مضامين معرفية متناقضة مع التصور الإسلامي للحكم السياسي , وهي فضلا عن ذلك مشتملة على تصورات لا تستقيم مع المخزون السياسي لدينا الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الخلفاء الراشدين .
*** *** ***
ويكن أن يعترض على التقرير بالسابق بعدة أسئلة أشهرها اثنان :
السؤال الأول : أن المراد بتطبيق الشريعة ليس كل الشريعة ولا أصل تطبيقها وإنما المراد كمال تطبيق الشريعة , فيكون المراد بتلك المقولة " الحرية/سيادة الأمة قبل كمال تطبيق الشريعة , أو مقدمة لكمال تطبيق الشريعة"
وهذا الاعتراض متفهم , ولكن مع ذلك لا يصح إيراده ؛ لأمور : أما الأول : فلأن المقولة مطلقة , وكانت ترد في سياقات كثيرة خالية من هذا القيد تماما, وأما الثاني : فلأن هذا المعنى مع صحته مزاحم باحتمالات ومعاني أخرى كثيرة يبدو بعضها أولى منه وأظهر في الاستعمال وأسرع مبادلة إلى الأذهان , وأما الثالث : فلأن الشريعة في صورتها الكاملة لا تحتاج إلى تحقيق السيادة فقط , وإنما تحتاج إلى أمور أخرى كثيرة ,غير السيادة , كنشر العلم والوعي الحقوقي , وتعزيز الهوية ونحوها , أما الرابع : فلأن بعض تطبيقات الشريعة يمكن أن يطبق بصورتها الكاملة حتى مع فقد السيادة الفردية أو الجماعية .
السؤال الثاني : أن المراد بالتطبيق الإلزام والإجبار بالشريعة , ويكون معنى تلك المقولة : "الحرية / سيادة الأمة قبل الإلزام بالشريعة" .. ولكن هذا الاعتراض لم يسلم من الخلل وعدم الانضباط , أما أولا : فلأنه لا يفهم من لفظة التطبيق بمجردها الإجبار والإفهام , وإنما يفهم منها مطلق الامتثال , فإطلاق لفظ عام وقصد معنى خاص جدا من غير قرينة غير مقبول لا لغة ولا شرعا , أما ثانيا : فلأنه يقتضي أن الأمة لا يلزمها اللزام بالشريعة ولا الإجبار عليها لا في عصرنا الحاضر ولا في عصور خلت ؛ لأنها فاقدة لسيادتها وراضخة تحت الاستبداد .
وهذه الأمور كلها تؤكد وجاهة الحكم على تلك المقولة بعدم الانضباط والدقة وبالتالي عدم الصحة .
أما بعد :
في حالة الانتفاضة الجماعية المباركة من قبل الأمة ومفكريها وأفرادها على الاستبداد الذي قهر الأمة وعبث بحياتها , تشكلت بعض العبارات والمقالات التي عدت تصاغ على شكل شعارات تختزل تحتها الكثير من المعاني .
ومن تلك العبارات التي أضحت من أشهر ما طرح في النوادي الفكرية عبارة " الحرية قبل تطبيق الشريعة " وتظهر تارة بصورة أخرى وهي " سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة" .
وقد ثارت حول تلك المقالة حوارات مطولة , واختلفت الآراء في تقييمها , واحتدمت النقاشات في الموقف منها .
ولأجل هذا قامت بعض المحاولات التحسينية وسعت إلى تغيير صياغتها لتبدو مناسبة ولطيفة , ومنها قول بعضهم :"الحرية طريق لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :"سيادة الأمة مقدمة لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :" الحرية /سيادة الأمة شرط لتطبيق الشريعة" .
وهذا الحالة الاختلافية العنيفة مؤشر قوي في حد ذاته على أن تلك المقولة ليست سوية ولا منضبطة في نفسها ومدلولها .
ولكن قبل الحكم بالجزم على تلك المقولة . وقبل أن نبادر إلى قبولها أو رفضها دعونا نقوم بمزيد من التحليل والدخول في الأعماق لنتحقق من مدى صحة تلك المقالة ومدى انضباطها في نفسها ومدى انسجامها مع المقتضيات الشرعية .
وإذا رمنا الوصول إلى تلك الغاية علينا أولا أن نلتزم بالعقلانية والموضوعية الصارمة , التي لا تتسامح أبدا في أن يمر من خلالها أي شيء غير متصف بالإتقان والانضباط , وأن نحرص حرصا بالغا على الهدوء في التحليل والاتزان في تحديد المناطات المؤثرة , وأن نكون مستحضرين للنصوص الشرعية التي تمثل بالنسبة لنا نحن المسلمين القاعدة الصلبة التي ننطلق منها في بناء تصوراتها وأفكارنا = حتى تكون أحكامنا منضبطة ومستقة مع نفسها ومع أصول شريعتنا .
وإذا رجعنا إلى تلك المقالة وأدخلناها في مختبراتنا التحليلية , فأنا نجد أنها من أولها إلى آخر غارقة في الإجمال والاشتباه والإبهام .
فإنه يستوقفنا في أول مراحل التحليل الإجمال والاشتباه المشهور في لفظة الحرية والسيادة , فهذه المصطلحات تعد من أشهر المصطلحات غموضا وإشكالا في الوسط الفكري , وقد اعترف بذلك عدد من المفكرين العرب وغيرهم .
وإذا تجاوزنا ذلك لشهرته فإن نجد لفظ "القبلية" هو الآخر يحتمل معاني عديدة , فإنه يحتمل القبلية المرجعية ويحتمل القبلية المصدرية ويحتمل القبلية التنفيذية التطبيقية .
والحال يتكرر في لفظ الأمة , فإنه قد يراد به كل الأمة وقد يراد به الأمة في دولة من الدول , وقد يراد به صنف من الأمة كالعلماء أو من عدا الحكام الظلمة .
وكذلك الحال في لفظ تطبيق الشريعة فإنه يدخل تحته أصناف من التطبيق مختلفة في طبيعتها وحكمها وشروطها , وفي نفس الوقت يحتمل أن يكون المراد بالتطبيق الكامل أو الناقص , وتحتمل أن يكون المراد به التطبيق الاختباري أو الإلزامي .
وهذه الإجمالات المتراكمة بعضها فوق بعض يجعل من الصعب جدا إصدار حكم واحد أو موقف منضبط على مثل هذه المقالة .
وسأحاول أن أقوم بقراءة تأصيلية انطلق فيها من أشد الأوصاف تأثيرا وأشدها التصاقا بالنظرة الشرعية في حكم تلك المقابلة , وهو وصف "تطبيق الشريعة" , ولست مهتما هنا بالبحث في قضية كون هذا التركيب"تطبيق الشريعة" تركيب شرعي أو أثري , ولا بالبحث في تاريخ استعماله , وإنما الهدف البحث في المعاني التي يمكن أن تحت لفظ "الشريعة" ؛ حتى نتجقق من علاقة الأمة بتطبيق الشريعة , وهل هي قائمة على اختبار الناس لها أم على القدرة والإمكان .
فإن الشريعة كمصطلح شرعي وعلمي يشمل أصنافا كثيرا جدا , ومنها :
النوع الأول : العبادات القلبية , الخشية والخوف والرجاء والمحبة والإنابة والخضوع والتوكل وغيرها , فهذا الصنف من الشريعة واجب على كل العباد , أفرادا وجماعات , ويمكن تطبيقها حتى في حالة الاستبداد , لأنه لا سلطة لأحد عليها إلا لله تعالى , ولا يصح إخراجها من الشريعة ؛ لأنها جزء من أهم أجزائها .
النوع الثاني : الواجبات العينية , التي تجب على كل مسلم , وهي كالصلاة والصيام والحج , فهذا النوع من الشريعة الأصل فيه الوجوب , ويجب على المسلم أن يقوم بعضها حتى في حالة الاستبداد , فالصلاة واجبة على المسلم حتى ولو كان مسجونا أو على منصوبا منصبة الشنق , فإنه يجب عليه أن يصلي ولو إيمانا .
ولهذا فإن الشريعة أوجبت هذه العبادات على العبيد والرقيق , مع أنهم فقدوا حريتهم وخضعوا نوعا من الخضوع لإنسان آخر , ولم تقل الشريعة إن تحقيق السيادة قبل تطبيق هذا النوع من الشريعة .
النوع الثالث : حفظ نصوص الشريعة وتعلم أحكامها , وهذا النوع من الشريعة من فروض الكفايات , وهو واجب على علماء الأمة وطلاب العلم فيها , ويمكن للأمة أيضا أن تقوم بهذا النوع من الشريعة الواجب عليها حتى مع الاستبداد , فإن العلوم الإسلامية قامت في دولة بني أمية وبني والعباس وخرج علماء كبار في الدولة الأموية في الأندلس وفي الدول الأخرى التي قامت في العالم الإسلامي , وكذلك خرج علماء كبار في عصرنا الحاضر , ولم يكن الاستبداد أو فقدان الأمة لسيادتها حائلا لكل العلماء من الوصول إلى حكم الشريعة أو تعلمها , فإنه لم يزل في الأمة من العلماء من يصدع بالحق ولم يتأثر بالسياسي , ووجود بعض من دخل عليه التأثر لا يؤثر على استقلال الآخرين .
النوع الرابع : تطبيق الحدود والتعزيرات , وهذا النوع من الشريعة ربطه كثير من علماء الإسلام بوجود الحكومة والدولة , ولكن لم لو توجد حكومة ودولة فإنه يجب على الأمة أن تنصب من ينفذ تلك الأحكام نيابة عنها , وإن وجدت حكومة لا تطبق حدود الله , فإنه يجب على الأمة أن تسعى إلى تغيير هذا المنكر وإزالة كل من يقف في طريق تطبيق ذلك الحكم .
النوع الخامس : الدفاع عن الشريعة ضد أعداها المتربصين , وهذه الحالة تعد من الأنواع التطبيقية للشريعة , ويمكن للأمة أن تطبيق هذا الحكم حتى في حالة الاستبداد , فلو افترضنا أن عدوا أغار على بلاد المسلمين ليزيل معالم الإسلام فإنه يجب على الأمة الدفاع حتى ولو كانوا تحت سلطة مستبدة ولو لم ترض تلك السلطة .
النوع السادس : تعيين من يسوس حياة المسلمين وينظم دنياهم ويساعدهم على تطبيق دينهم , وهذا النوع من أنواع الشريعة الواجبة على الأمة , وكذلك يجب عليهم مراقبته ومحاسبته , فكما أنه يجب على الأمة تعيين حاكم ينوب عنها , فكذلك يجب عليها القيام بمراقبته ومحاسبته , فهما واجبات شرعيان لا بد من القيام بهما .
وتطبيق هذا الواجب الرقابي – الذي هو نوع من الشريعة - هو في الحقيقة من أقوى الطرق والضمانات التي تحقق للأمة سيادتها وحريتها بحيث لا يستطع من فقد عدله وأمانته من الحكام أن يستأثر بأموال الأمة ولا يعبث بمقدارتها وحياتها .
ولو أردنا أن نأخذ من هذا التقرير عنوانا وشعارا لقلنا :" تطبيق الشريعة قبل سيادة الأمة " أو لقلنا " تطبيق الشريعة مقدمة لسيادة الأمة " .
وهذه بعض أشهر الأصناف التي يحتملها مصطلح "تطبيق الشريعة "هناك أصناف أخرى يمكن أن تدخل تحت تطبيق الشريعة .
ويبدو من التحليل السابق , أن بعض تطبيق الشريعة غير مرتبط بسيادة الفرد ولا الأمة في وجوبه وتطبيقه , وإنما يجب ويطبق حتى مع فقدان السيادة , وبعضها منفصل في تحقيقه عن السيادة , واستطاعت الأمة أن تقوم به حتى مع وجود المستبد , وبعضها يعد مقدمة وشرطا في تحقيق السيادة للأمة أصلا , ويبدو لنا أن الأمة يجب عليها أن تطبيق الشريعة , وتلزم بتنفيذ أحكامها على المتعدين والمتعدين وغير القالبين لحكمها , ما دام الإمكان موجودا , فإذا فقد الإمكان والقدرة , فإن الواجب أن تسعى الأمة إلى تخفيف الانحراف بأس طريق يوصل إلى ذلك ما لم يكن مخالفا لقطعياتها .
وبهذا التفكيك لتلك المقولة يظهر لنا مقدار الإجمال والتعميم الذي وقع فيها , واتضح لنا أنها محملة بتعميم ضخم وإطلاق واسع اختفت معه الحدود الفاصلة المؤثرة في الأحكام , حتى غدا من الصعب أن تشرح ما تتضمنه من معاني إلا في صفات عديدة .
وإذا استحضرنا مع الإجمال في المكونات الأخرى , وهي الحرية والسيادة والقبلية , فإن الخطب يزداد خطورة والموقف يزداد تأزما , لأن بعض المعاني التي تحتملها تلك الألفاظ متنافية مع أصول الشريعة وقطعياتها , ولا يمكن لأي مسلم أن يقبلها .
والعبارات التي من هذا القبيل لا يصح أن يعتمد عليها في بيان التصورات الشرعية الكبيرة , ولا يصح عقلا ولا منهجا ولا شرعا أن تجعل شعارا تختزل تحته المشاريع الإصلاحية .
ومن اعتمدها لتكون له شعارا لمشروعه أو عنوانا لتصوراتها , فهو مظنة لوقوع الخطأ والابتعاد عن إدراك الصواب بشكل واضح , ويحسن بنا في هذا السياق أن نتذكر المدرسة الكلامية , فإنها مشروع ضخم قام على عبارات ومقالات مجملة غير بينت المعالم والحدود , ومن أشهر ما كان شعارا لها مقولة " العقل قبل النقل " أو "العقل مقدم على النقل , وهي تعني فيما تعنيه من المعاني أن "العقل مقدم على تطبيق الشريعة " , وقد تطور هذا الشعار حتى صار من أقوى الأسباب في الابتعاد عن الشريعة وتعظيم نصوصها , ومن أقوى الأسباب التي صرفت الناس عن فهم الصحابة ومنطلقاتهم , وتكونت حوله مفاهيم عديدة غدت هي المتحكمة في بناء التصورات العقدية .
وهذا الحال يدعونا إلى أن نقول إن استعمال هذه المقالة في تصوري الحقائق الشرعية غير صحيح ؛ لأنها متضمة لمعاني لا يقبل أن تقبل في شرعنا , وقد اتخذت طريقا ومنفذا لتمرير مضامين معرفية متناقضة مع التصور الإسلامي للحكم السياسي , وهي فضلا عن ذلك مشتملة على تصورات لا تستقيم مع المخزون السياسي لدينا الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الخلفاء الراشدين .
*** *** ***
ويكن أن يعترض على التقرير بالسابق بعدة أسئلة أشهرها اثنان :
السؤال الأول : أن المراد بتطبيق الشريعة ليس كل الشريعة ولا أصل تطبيقها وإنما المراد كمال تطبيق الشريعة , فيكون المراد بتلك المقولة " الحرية/سيادة الأمة قبل كمال تطبيق الشريعة , أو مقدمة لكمال تطبيق الشريعة"
وهذا الاعتراض متفهم , ولكن مع ذلك لا يصح إيراده ؛ لأمور : أما الأول : فلأن المقولة مطلقة , وكانت ترد في سياقات كثيرة خالية من هذا القيد تماما, وأما الثاني : فلأن هذا المعنى مع صحته مزاحم باحتمالات ومعاني أخرى كثيرة يبدو بعضها أولى منه وأظهر في الاستعمال وأسرع مبادلة إلى الأذهان , وأما الثالث : فلأن الشريعة في صورتها الكاملة لا تحتاج إلى تحقيق السيادة فقط , وإنما تحتاج إلى أمور أخرى كثيرة ,غير السيادة , كنشر العلم والوعي الحقوقي , وتعزيز الهوية ونحوها , أما الرابع : فلأن بعض تطبيقات الشريعة يمكن أن يطبق بصورتها الكاملة حتى مع فقد السيادة الفردية أو الجماعية .
السؤال الثاني : أن المراد بالتطبيق الإلزام والإجبار بالشريعة , ويكون معنى تلك المقولة : "الحرية / سيادة الأمة قبل الإلزام بالشريعة" .. ولكن هذا الاعتراض لم يسلم من الخلل وعدم الانضباط , أما أولا : فلأنه لا يفهم من لفظة التطبيق بمجردها الإجبار والإفهام , وإنما يفهم منها مطلق الامتثال , فإطلاق لفظ عام وقصد معنى خاص جدا من غير قرينة غير مقبول لا لغة ولا شرعا , أما ثانيا : فلأنه يقتضي أن الأمة لا يلزمها اللزام بالشريعة ولا الإجبار عليها لا في عصرنا الحاضر ولا في عصور خلت ؛ لأنها فاقدة لسيادتها وراضخة تحت الاستبداد .
وهذه الأمور كلها تؤكد وجاهة الحكم على تلك المقولة بعدم الانضباط والدقة وبالتالي عدم الصحة .
مواضيع مماثلة
» إيمان الأمة قبل تطبيق الشريعة ردًا على نظرية: "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"
» من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة
» بمن الذي يطبق الشريعة، الأمة أم الفرد؟
» ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة
» الليبراليون الخُدَّجْ ولوازم القول بأن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة
» من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة
» بمن الذي يطبق الشريعة، الأمة أم الفرد؟
» ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة
» الليبراليون الخُدَّجْ ولوازم القول بأن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى