علّمتني الشّدائد

شدائدُ الحياة مهيعٌ مسلوك لا يتخلف عن النزول به أحد.
ومحنُ الحياة سيفٌ مرهف لا يملك التترس منه أحد.
وبوائقُ الزمان نَبْـلٌ مسنونٌ لا يسلم من سهامه أحد.

علّمتني الشّدائد 040

وقد دهمتني من صروف الدهر نائبة أزرتْ ببدني ومالي،
وغشيتني من حوادث الأيام فاجعة أغضت عين عزيمتي،
وقصمتني من طوارق الليالي حازبةٌ؛
صرمت حبال أنسي وبهجتي.
وكان أشدُّ ما عانيتُ من لأوائها
خذلان الصديق، وشماتة العدو!

علّمتني الشّدائد 040

تلفّتُّ فما راعني غير خلو داري من الزائرين؛
بعد ما كانوا يحطمون عتبتها ذهاباً وإياباً.
ونظرتُ فما ساءني غير لواحظ الشامتين الحادة،
وإشاعات المغرضين الكاذبة، وفرحة الحاسدين المُزيّفة.

علّمتني الشّدائد 040

فكانت هذه الشدّةُ - على علاتها -؛
اختلاءٌ فكريٌ بالنفس وللنفس أراجع خلالها حساباتي،
وأدوّن فيها دروس حياتي.
وهذا هو دأب العقلاء؛ عندما تنوبهم الخطوب.
وهذه هي شنشنة الألبّاء؛ عندما تخترمهم النكبات.

علّمتني الشّدائد 040

[
فالشافعي لما تحيـّفته شدةٌ عظيمة؛
استفاد منها درسًا عظيمًا وأنشد قائلاً:

جزي الله الشدائد كل خيرٍ
... وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني
... عرفتُ بها عدوي من صديقي

علّمتني الشّدائد 040

والزعازع التي لاحقتْ المتنبي؛
ألهمته الحكمة وأنبغت ذكاءه فكان:
ينام ملء جفونه عن شواردها
... ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

وأشعاره كلها تتضح بالتجارب والدروس،
ومنها قوله الذي لا أفتأ أردده:

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا
... جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ
... لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

علّمتني الشّدائد 040

أما مصطفى السباعي فالبوائر التي ضعضعته؛
أنتجتْ لنا كتاباً عظيم النفع فائق الفائدة أسماه:
( هكذا علمتني الحياة) يقول في فاتحته:
"وبعد فهذه خطرات بدأت تسجيلها،
وأنا في مستشفى المواساة بدمشق في شهر ذي القعدة؛
من عام 1381 للهجرة الموافق لشهر نيسان (إبريل)؛
من عام 1962 للميلاد، وكنت بدأت بتسجيلها لنفسي؛
حين رأيتني في عزلة عن الأهل والولد، والتدريس والتأليف،
وتلك هي عادتي في السجون والأمراض والأسفار".

علّمتني الشّدائد 040

وما أحب أن أكون بدعاً من الحكماء؛
فأطلقتُ عنان فكري في استجلاب الدروس؛
من ثنايا شدتي كي أستبين سبيلَ الراشدين،
وأتجنب اللدغ من الجحر الواحد مرتين.