أهمية التوحيد وثمراته
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
أهمية التوحيد وثمراته
ا، ا نَّ الحمد لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا
مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
إن مَن تدبر نصوص القرآن والسُّنَّة يعلم أهمية التوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصر أهمية التوحيد ولو في أسفارٍ ومجلَّدات، غير أني أذكر طَرَفًا منها في هذه المقالة؛ لتكون بمثابة المنارات التي يهتدي بها السالك لأنفع المسالك، وهي:
1- التوحيد من أجله خلق الله الخلق:
قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبَّته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك متوقِّف على معرفة الله - تعالى - فإنَّ تمام العبادة متوقفٌ على المعرفة بالله، بل كلَّما ازداد العبد معرفةً بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[1].
فمعنى الآية: أنه - تبارك وتعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنَّه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[2].
"فبيَّن - سبحانه - الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يُخلقوا عبثًا ولا سدًى، بل خُلقوا لهذا الأمر العظيم؛ وهو أن يعبدوا الله - جل وعلا - ولا يشركوا به شيئًا، ويخصُّوه بدعائهم، وخوفهم ورجائهم، وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم، وغير ذلك"[3].
"فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تُسمَّى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة"[4].
2- التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها:
قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: انصبه ووجِّهه {لِلدِّينِ} الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان؛ بأن تتوجَّه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، وشرائعه الباطنة؛ كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وخصَّ الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنِيفًا}؛ أي: مُقْبِلاً على الله في ذلك، معرِضًا عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها.
فإن جميع أحكام الشرع، الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق، وهذه حقيقة الفِطَر، ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِضٍ عرض لفطرته أفسدها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)).
{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}؛ أي: لا أحد يبدِّل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله {ذَلِكَ} الذي أمرناك به {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، فإنَّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلا يتعرَّفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه"[5].
"والنفس بفطرتها إذا تُرِكت كانت مُقِرَّة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تعبدُه لا تُشرك به شيئًا، ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوزٌ في الفِطَر والشرك طارئ ودخيل عليها"[6].
"فإن الله فَطَرَ القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به، والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفِطَر على حالها لما آثرت على الحقِّ سواه، ولما سكنت إلاَّ إليه، ولا اطمأنَّت إلا به، ولا أحبَّت غيره"[7].
"فسدِّد وجهك واستمِرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه - تعالى - فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره؛ كما تقدَّم عند قوله - تعالى -: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))[8].
"فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهي عبادة اللّه وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتَّبع أهلُه أهواءَهم بغير علم، ولا بُدَّ لهذه الفطرة والخلقة - وهي صحة الخلقة - من قوت وغذاء يمدُّها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملاً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكمَّلة بالشريعة المنزَّلة، وهي مأدُبة الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: ((إنَّ كل آدبٍ يحبُّ أن تُؤتى مأدُبته، وإن مأدُبَة الله هي القرآن))، ومثله كماءٍ أنزله الله من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسُّنَّة، والمحرِّفون للفطرة المغيِّرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوبَ مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور"[9].
"ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح"[10].
"ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنَّما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسَب بالإرادة والفعل، ألاَ ترى أنه يقول: ((فأبواه يهوِّدانه))؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكومٌ له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))، ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة، وحُكِي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته؛ أي: على خلقته التي جُبِل عليها في علم الله - تعالى - من السعادة أو الشقاوة، فكلٌّ منهم صائرٌ في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعامل في الدنيا بالعمل المُشَاكِل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديَّين أو نصرانيَّين، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما، وقيل: معناه: أن كل مولودٍ يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة؛ أي: على الجبلَّة السليمة والطبع المتهيِّئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرَّ على لزومها؛ لأن هذا الدين موجودٌ حسنُه في العقول، وإنَّما يعدل عنه مَن يعدل إلى غيره؛ لآفةٍ من آفات النشوء والتقليد، فلو سَلِم من تلك الآفات لم يعتقد غيره"[11].
3- التوحيد من أجله أخذ الله الميثاق على بني آدم:
قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، "يخبر - تعالى - أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه - تعالى - فطرهم على ذلك وجَبَلهم عليه؛ قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة - فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء))، وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم))، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: "حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السَّرِيُّ بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ عليه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتناولون الذريَّة؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنَّها ليست نسمة تولد إلا وُلِدَت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها؛ فأبواها يهوِّدانها، وينصِّرانها))، قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في "سننه" من حديث هُشَيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأنَّ الله ربهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاّ تشرك بي شيئًا، فأبيت إلاَّ أن تشرك بي))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعني: ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كلَّ ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهم قبلاً؛ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172- 173]، وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من "سننه" عن محمد بن عبدالرحيم صاعقة، عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلاَّ أن ابن أبي حاتم جعله موقوفًا، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتجَّ مسلمٌ بكلثوم بن جبر، هكذا قال، وقد رواه عبدالوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن عُلَيَّة ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبر، عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت - والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي حمزة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرِّ وهو في أذًى من الماء، وقال أيضًا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود، عن جرير، قال: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه، وحلَّ عنه عُقَدَه، فإن ابني مُجْلَس ومسؤول، ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمَّ يسأل ابنك؟ مَنْ يسأله إياه؟ قال: يسأل عن الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم، قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفَّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد مَن أعطى الميثاق يومئذ، فمَن أدرك منهم الميثاق الآخر فَوَفَى به نفعه الميثاق الأول، ومَن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرَّ به لم ينفعه الميثاق الأوَّل، ومَن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول - على الفطرة - فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وقف هذا على ابن عباس، والله أعلم.
فهذه الأحاديث دالَّة على أن الله - عز وجل - استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأمَّا الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبدالله بن عمرو، وقد بيَّنَّا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدَّم، ومن ثمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدَّم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري، عن الأسود بن سريع، وقد فسَّر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ}، ولم يقل: من آدم، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره {ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن؛ كقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ} [الأنعام: 133]، ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول؛ كقوله: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية، وتارة تكون حالاً كقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة : 17]؛ أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، كما أن السؤال تارةً يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، قالوا: ومما يدلُّ على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حُجَّة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال مَن قاله، لكان كلُّ أحد يذكره ليكون حُجَّةً عليه، فإن قيل: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كافٍ في وجوده، فالجواب أن المكذِّبين من المشركين يكذِّبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جُعِل حجة مستقلَّة عليهم، فدلَّ على أنَّه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا}؛ أي: لئلاَّ تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: التوحيد {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا}" الآية[12].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أقررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فِطَرِهم من الإقرار بأنَّه ربهم وخالقهم، ومليكهم، {قَالُوا بَلَى} قد أقررنا بذلك، فإن الله - تعالى - فطر عباده على الدين الحنيف القيم، فكلُّ أحدٍ فهو مفطورٌ على ذلك، ولكن الفطرة قد تتغيَّر وتتبدَّل، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة، ولهذا؛ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: إنما امتحناكم، حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم من أن الله - تعالى - ربكم خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقرُّوا بشيءٍ من ذلك، وتزعمون أنَّ حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون، فاليوم قد انقطعت حُجَّتكم، وثبتت الحجة البالغة لله عليكم، أو تحتجُّون أيضًا بحُجَّة أخرى فتقولون: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، فقد أَوْدَع الله في فِطَرِكم ما يدلُّكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأنَّ الحقَّ ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءَكم ويعلو عليه، نعم، قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالِّين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنُّه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه عن حُجَجِ الله وبيِّناته، وآياته الأُفُقية والنفسية، فإعراضه ذلك وإقباله على ما قاله المبطلون ربما صيَّره بحالةٍ يفضِّل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات، وقد قيل: إن هذا يومٌ أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتجَّ عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت على ظلمهم، في كفرهم وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدلُّ على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله - تعالى - والواقع شاهدٌ بذلك، فإنَّ هذا العهد والميثاق الذي ذكروا أنَّه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره حين كانوا في عالم الذَّرِّ، لا يذكره أحدٌ ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتجُّ الله عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟! ولهذا لما كان هذا أمرًا واضحًا جليًّا قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ} [الأعراف: 174]؛ أي: نبيِّنها ونوضِّحها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى ما أَوْدَع الله في فطرهم، وإلى ما عاهدوا الله عليه، فيرتدعوا عن القبائح"[13].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أن يقولوا؛ أي: لئلاَّ يقولوا، أو كراهية أن يقولوا، ومَن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلاَّ تقولوا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل: كيف تلزم الحُجَّة على أحدٍ لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمَن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد ولَزِمَتْه الحُجَّة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
قوله - تعالى -: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}، يقول: إنما أُخِذ الميثاق عليكم لئلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: كنَّا أتباعًا لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عُذْرًا لأنفسكم وتقولوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}؛ أفتعذِّبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجُّوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله - تعالى - بأَخْذ الميثاق على التوحيد، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ}؛ أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى التوحيد"[14].
"فهذه الآية تدلُّ على أن الإنسان مجبولٌ بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أم قلنا: إن هذا هو ما ركب الله - تعالى - في فِطَرِهم من الإقرار به؛ فإنَّ الآية تدلُّ على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته"[15].
4- التوحيد من أجله أرسل الله الرسل:
قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ "أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله؛ فأدلَّة العقل شاهدةٌ أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إمَّا معقولٌ وإما منقولٌ، وقال قتادة: لم يُرْسَل نبيٌّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ ذلك على الإخلاص والتوحيد"[16].
"فإن قيل: إذا كان الدَّليل العقلي والدليل النقلي قد دلاَّ على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب - تعالى - بقوله : {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ أي: ذلك الذي مشوا عليه ليس لهم فيه حجة، وإنَّما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخِّر بالمتقدِّم الضالِّ، وأماني منَّاها الشياطين، وزيَّنت لهم سوءُ أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسَّر انفصالُها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحلِّ"[17].
"فكلُّ نبيٍّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضًا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضةٌ عند ربهم، وعليهم غضبٌ، ولهم عذابٌ شديد"[18].
وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
"يخبر - تعالى - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنَّه ما من أمَّة متقدِّمة أو متأخِّرة، إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلُّهم متَّفقون على دعوة واحدة ودين واحد؛ وهو: عبادة الله وحده لا شريك أَنِ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها - قسمين، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} فاتبعوا المرسلين علمًا وعملاً، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} فاتَّبع سبيل الغي"[19].
"{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: بأن اعبدوا الله ووحِّدوه، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: اتركوا كلَّ معبود دون الله؛ كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل مَن دعا إلى الضلال، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وعبادته، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}؛ أي: بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره"[20].
مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
إن مَن تدبر نصوص القرآن والسُّنَّة يعلم أهمية التوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصر أهمية التوحيد ولو في أسفارٍ ومجلَّدات، غير أني أذكر طَرَفًا منها في هذه المقالة؛ لتكون بمثابة المنارات التي يهتدي بها السالك لأنفع المسالك، وهي:
1- التوحيد من أجله خلق الله الخلق:
قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبَّته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك متوقِّف على معرفة الله - تعالى - فإنَّ تمام العبادة متوقفٌ على المعرفة بالله، بل كلَّما ازداد العبد معرفةً بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[1].
فمعنى الآية: أنه - تبارك وتعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنَّه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[2].
"فبيَّن - سبحانه - الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يُخلقوا عبثًا ولا سدًى، بل خُلقوا لهذا الأمر العظيم؛ وهو أن يعبدوا الله - جل وعلا - ولا يشركوا به شيئًا، ويخصُّوه بدعائهم، وخوفهم ورجائهم، وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم، وغير ذلك"[3].
"فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تُسمَّى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة"[4].
2- التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها:
قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: انصبه ووجِّهه {لِلدِّينِ} الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان؛ بأن تتوجَّه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، وشرائعه الباطنة؛ كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وخصَّ الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنِيفًا}؛ أي: مُقْبِلاً على الله في ذلك، معرِضًا عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها.
فإن جميع أحكام الشرع، الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق، وهذه حقيقة الفِطَر، ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِضٍ عرض لفطرته أفسدها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)).
{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}؛ أي: لا أحد يبدِّل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله {ذَلِكَ} الذي أمرناك به {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، فإنَّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلا يتعرَّفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه"[5].
"والنفس بفطرتها إذا تُرِكت كانت مُقِرَّة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تعبدُه لا تُشرك به شيئًا، ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوزٌ في الفِطَر والشرك طارئ ودخيل عليها"[6].
"فإن الله فَطَرَ القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به، والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفِطَر على حالها لما آثرت على الحقِّ سواه، ولما سكنت إلاَّ إليه، ولا اطمأنَّت إلا به، ولا أحبَّت غيره"[7].
"فسدِّد وجهك واستمِرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه - تعالى - فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره؛ كما تقدَّم عند قوله - تعالى -: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))[8].
"فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهي عبادة اللّه وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتَّبع أهلُه أهواءَهم بغير علم، ولا بُدَّ لهذه الفطرة والخلقة - وهي صحة الخلقة - من قوت وغذاء يمدُّها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملاً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكمَّلة بالشريعة المنزَّلة، وهي مأدُبة الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: ((إنَّ كل آدبٍ يحبُّ أن تُؤتى مأدُبته، وإن مأدُبَة الله هي القرآن))، ومثله كماءٍ أنزله الله من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسُّنَّة، والمحرِّفون للفطرة المغيِّرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوبَ مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور"[9].
"ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح"[10].
"ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنَّما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسَب بالإرادة والفعل، ألاَ ترى أنه يقول: ((فأبواه يهوِّدانه))؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكومٌ له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))، ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة، وحُكِي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته؛ أي: على خلقته التي جُبِل عليها في علم الله - تعالى - من السعادة أو الشقاوة، فكلٌّ منهم صائرٌ في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعامل في الدنيا بالعمل المُشَاكِل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديَّين أو نصرانيَّين، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما، وقيل: معناه: أن كل مولودٍ يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة؛ أي: على الجبلَّة السليمة والطبع المتهيِّئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرَّ على لزومها؛ لأن هذا الدين موجودٌ حسنُه في العقول، وإنَّما يعدل عنه مَن يعدل إلى غيره؛ لآفةٍ من آفات النشوء والتقليد، فلو سَلِم من تلك الآفات لم يعتقد غيره"[11].
3- التوحيد من أجله أخذ الله الميثاق على بني آدم:
قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، "يخبر - تعالى - أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه - تعالى - فطرهم على ذلك وجَبَلهم عليه؛ قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة - فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء))، وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم))، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: "حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السَّرِيُّ بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ عليه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتناولون الذريَّة؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنَّها ليست نسمة تولد إلا وُلِدَت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها؛ فأبواها يهوِّدانها، وينصِّرانها))، قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في "سننه" من حديث هُشَيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأنَّ الله ربهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاّ تشرك بي شيئًا، فأبيت إلاَّ أن تشرك بي))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعني: ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كلَّ ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهم قبلاً؛ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172- 173]، وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من "سننه" عن محمد بن عبدالرحيم صاعقة، عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلاَّ أن ابن أبي حاتم جعله موقوفًا، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتجَّ مسلمٌ بكلثوم بن جبر، هكذا قال، وقد رواه عبدالوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن عُلَيَّة ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبر، عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت - والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي حمزة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرِّ وهو في أذًى من الماء، وقال أيضًا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود، عن جرير، قال: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه، وحلَّ عنه عُقَدَه، فإن ابني مُجْلَس ومسؤول، ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمَّ يسأل ابنك؟ مَنْ يسأله إياه؟ قال: يسأل عن الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم، قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفَّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد مَن أعطى الميثاق يومئذ، فمَن أدرك منهم الميثاق الآخر فَوَفَى به نفعه الميثاق الأول، ومَن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرَّ به لم ينفعه الميثاق الأوَّل، ومَن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول - على الفطرة - فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وقف هذا على ابن عباس، والله أعلم.
فهذه الأحاديث دالَّة على أن الله - عز وجل - استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأمَّا الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبدالله بن عمرو، وقد بيَّنَّا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدَّم، ومن ثمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدَّم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري، عن الأسود بن سريع، وقد فسَّر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ}، ولم يقل: من آدم، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره {ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن؛ كقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ} [الأنعام: 133]، ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول؛ كقوله: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية، وتارة تكون حالاً كقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة : 17]؛ أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، كما أن السؤال تارةً يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، قالوا: ومما يدلُّ على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حُجَّة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال مَن قاله، لكان كلُّ أحد يذكره ليكون حُجَّةً عليه، فإن قيل: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كافٍ في وجوده، فالجواب أن المكذِّبين من المشركين يكذِّبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جُعِل حجة مستقلَّة عليهم، فدلَّ على أنَّه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا}؛ أي: لئلاَّ تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: التوحيد {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا}" الآية[12].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أقررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فِطَرِهم من الإقرار بأنَّه ربهم وخالقهم، ومليكهم، {قَالُوا بَلَى} قد أقررنا بذلك، فإن الله - تعالى - فطر عباده على الدين الحنيف القيم، فكلُّ أحدٍ فهو مفطورٌ على ذلك، ولكن الفطرة قد تتغيَّر وتتبدَّل، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة، ولهذا؛ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: إنما امتحناكم، حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم من أن الله - تعالى - ربكم خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقرُّوا بشيءٍ من ذلك، وتزعمون أنَّ حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون، فاليوم قد انقطعت حُجَّتكم، وثبتت الحجة البالغة لله عليكم، أو تحتجُّون أيضًا بحُجَّة أخرى فتقولون: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، فقد أَوْدَع الله في فِطَرِكم ما يدلُّكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأنَّ الحقَّ ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءَكم ويعلو عليه، نعم، قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالِّين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنُّه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه عن حُجَجِ الله وبيِّناته، وآياته الأُفُقية والنفسية، فإعراضه ذلك وإقباله على ما قاله المبطلون ربما صيَّره بحالةٍ يفضِّل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات، وقد قيل: إن هذا يومٌ أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتجَّ عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت على ظلمهم، في كفرهم وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدلُّ على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله - تعالى - والواقع شاهدٌ بذلك، فإنَّ هذا العهد والميثاق الذي ذكروا أنَّه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره حين كانوا في عالم الذَّرِّ، لا يذكره أحدٌ ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتجُّ الله عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟! ولهذا لما كان هذا أمرًا واضحًا جليًّا قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ} [الأعراف: 174]؛ أي: نبيِّنها ونوضِّحها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى ما أَوْدَع الله في فطرهم، وإلى ما عاهدوا الله عليه، فيرتدعوا عن القبائح"[13].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أن يقولوا؛ أي: لئلاَّ يقولوا، أو كراهية أن يقولوا، ومَن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلاَّ تقولوا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل: كيف تلزم الحُجَّة على أحدٍ لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمَن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد ولَزِمَتْه الحُجَّة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
قوله - تعالى -: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}، يقول: إنما أُخِذ الميثاق عليكم لئلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: كنَّا أتباعًا لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عُذْرًا لأنفسكم وتقولوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}؛ أفتعذِّبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجُّوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله - تعالى - بأَخْذ الميثاق على التوحيد، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ}؛ أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى التوحيد"[14].
"فهذه الآية تدلُّ على أن الإنسان مجبولٌ بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أم قلنا: إن هذا هو ما ركب الله - تعالى - في فِطَرِهم من الإقرار به؛ فإنَّ الآية تدلُّ على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته"[15].
4- التوحيد من أجله أرسل الله الرسل:
قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ "أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله؛ فأدلَّة العقل شاهدةٌ أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إمَّا معقولٌ وإما منقولٌ، وقال قتادة: لم يُرْسَل نبيٌّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ ذلك على الإخلاص والتوحيد"[16].
"فإن قيل: إذا كان الدَّليل العقلي والدليل النقلي قد دلاَّ على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب - تعالى - بقوله : {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ أي: ذلك الذي مشوا عليه ليس لهم فيه حجة، وإنَّما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخِّر بالمتقدِّم الضالِّ، وأماني منَّاها الشياطين، وزيَّنت لهم سوءُ أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسَّر انفصالُها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحلِّ"[17].
"فكلُّ نبيٍّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضًا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضةٌ عند ربهم، وعليهم غضبٌ، ولهم عذابٌ شديد"[18].
وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
"يخبر - تعالى - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنَّه ما من أمَّة متقدِّمة أو متأخِّرة، إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلُّهم متَّفقون على دعوة واحدة ودين واحد؛ وهو: عبادة الله وحده لا شريك أَنِ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها - قسمين، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} فاتبعوا المرسلين علمًا وعملاً، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} فاتَّبع سبيل الغي"[19].
"{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: بأن اعبدوا الله ووحِّدوه، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: اتركوا كلَّ معبود دون الله؛ كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل مَن دعا إلى الضلال، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وعبادته، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}؛ أي: بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره"[20].
المسوق العربي- عضو سوبر
-
عدد المساهمات : 1225
التقييم : 9
العمر : 35
احترام قوانين المنتدى :
رد: أهمية التوحيد وثمراته
جزاك الله كل خيرا ويجعله الله فى ميزان حسناتك لا تحرمنا من جديدك |
AhMeD2002- عضو نشيط
-
عدد المساهمات : 363
التقييم : 3
العمر : 31
احترام قوانين المنتدى :
رد: أهمية التوحيد وثمراته
شكرا ع المرور
المسوق العربي- عضو سوبر
-
عدد المساهمات : 1225
التقييم : 9
العمر : 35
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى