حد الزنا بين رحمة الإسلام وعظم التربية
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حد الزنا بين رحمة الإسلام وعظم التربية
حد الزنا بين رحمة الإسلام وعظم التربية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7 - 9].
"في إقامة الحدود الإسلامية (العقوبات على الجناة) نفعٌ للناس؛ لأنها تمنع الجرائم، وتروع البغاة، وتكفُّهم عن انتهاك الحرمات، وتحقق الأمن لكل فرد على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته، وقد روى النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن حالت شفاعته (وساطته) دون حدٍّ من حدود الله، فهو يضادُّ الله في أمره)).
وفي العقوبة التي فرضها الإسلام على الزنا رحمةٌ للناس؛ لأن فيها إبعادَهم عمَّا يضرهم صحيًّا واجتماعيًّا، ورحمة للذرية؛ لأن فيها إنقاذَ الأطفال من أن يُولَدوا وهم مشرَّدون ضائعون لا أب لهم، وإنقاذهم من الإصابة بأمراض الزنا التي يكتسبونها بالعدوى من أمهاتهم الزانيات، ورحمة للزوجات العفيفات؛ لأن فيها حمايتهن من أن تنتقل إليهن بالعدوى أيضًا أمراضُ الزنا من أزواجهم الزناة، ورحمة للأمة بأسرها؛ لأن فيها حفظها من أن تقوَّض أركانها.
ومع ذلك كله، فإن الإسلام شرع كلَّ ما من شأنه إبعاد حد الزنا من تطبيقه على الناس ما أمكن إلى ذلك سبيلاً؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ادفعوا الحدود ما وجدتم بها مدفعًا))؛ رواه ابن ماجه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ادرؤوا الحدَّ عن المسلمين ما استطعتم (أي حاولوا إلا تعاقبوا الناس على ما يرتكبون من المعاصي قدر الاستطاعة)، فإن كان له مخرج (وملجأ)، فخلوا سبيله (حاولوا إطلاق سراحه بأي حجة شرعية كانت)، فإن الإمام (الحاكم أو القاضي) لأن يخطئ في العفوِ خير له من أن يخطئ في العقوبة))؛ رواه الترمذي، والمعنى أن الحاكم إذا عفا عن متَّهم وهو مستحق العقوبة فعفا عنه خطأ، خير له من أن يعاقب متهمًا وهو بريء فعاقبه خطأ.
وعن عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه أبو داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اقبلوا من ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود))، وذوو الهيئات هم أصحاب المروءات الذين لا يعرفون بالشرِّ فيزل أحدهم الزلة، فقد تصدرُ منه هفوةٌ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُوصِينا بأن نقبل منهم العثرات، فلا نحاسبهم عليها.
وذهبت الشافعية والحنفية وأحمد إلى أن الرجوع عن الإقرار يُسقِط الحد؛ أي: إن المجرم إذا جيء به لمعاقبتِه لاعترافه على نفسه لا لشهود أربعة عليه، إلا أنه قبيل تنفيذ الحكم عليه بدَّل من اعترافه وزعم أنه بريء لم يرتكب الجريمة التي أقر بها من قبلُ، فإنه في هذه الحال يؤخذ بشهادته الأخيرة، فيترك ولا يقام عليه الحد، بل الإسلام أجاز في مثل هذه الحالة تركَ اللحاق بمَن هرب في أثناء إقامة الحد عليه؛ لأن هروبه يكون بمثابةِ مَن غيَّر اعترافه؛ استنادًا لما رواه أبو هريرة أن ماعزًا لما وجد من الحجارة فرَّ حتى مر برجلٍ معه عظم الحنك، فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((هلاَّ تركتموه))؛ قال الترمذي: إنه حديث حسن.
وحتى عند تطبيق العقوبة على الجاني، فإن الإسلام يسعى ما أمكن إلى تخفيفها، فعن أبي أميمة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اشتكى رجل من الأنصار حتى أُضني (أي: أصابه مرض حتى صار نحيلاً هزيلاً)، فعاد جلدة على عظم، فدخلتْ عليه جارية فهش لها (أي: ارتاح لها وخف ونشط)، فوقع عليها فزنا بها، فدخل عليه رجال من قومه يعودونه، فأخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله، فإني وقعتُ على جاريةٍ دخلت عليَّ، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذوا له مائة شمراخ (أي: مائة عود من أغصان نخل عليه تمر)، فيضربونه بها ضربة واحدة، (ذلك لتكون بمثابة ضربة بمائة جلدة؛ رحمةً به)؛ أخرجه أبو داود والنسائي.
ومن رحمة الإسلام أن احتاط لإثباتِ جريمة الزنا، فاشترط شروطًا فيها، يكاد من المستحيل توافرها؛ لذلك لم أجد حسب علمي أن أقيم حد الزنا على مسلمٍ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو في عهد الخلفاء الراشدين لشهادة أربعة عليه رأَوه جميعًا رأي العين، وكان جميع الذين أقيم عليهم حد الزنا أقيم عليهم هذا الحد لاعترافِهم على أنفسهم بارتكاب الجريمة.
يقول أحد الكتاب المسلمين:
إن جريمة الزنا "لا تثبت إلا بشهادةِ أربعة شهود عدول، يرون الجريمة فعلاً رأي العين، وبدرجة التثبت واليقين، ويشترط أن يكون الشهود أربعة لا أقل، حتى إذا نقصوا عن أربعة أو سحب واحد منهم شهادته، لعُدَّ الباقون متَّهمين بالبلاغ الكاذب، فوقعت العقوبة عليهم بدلاً من توقيعها على المجرم الأصيل.
ولم يكن القصدُ من المبالغة في هذا الاحتياط تشجيعَ الفاجرين على الزنا، وإنما الدافعُ إلى ذلك هو الحرصُ على أعراض الناس من تشويهِ سمعتِها بالبلاغات الكاذبة الصادرة من نفوس مريضة، وكذلك لجعل التبليغ عن جريمة الزنا نادر الحدوث، فلا يتحدث المجتمع عن وقوعها، ولا تلوكُها الأفواه، وهذا هو الأمر المقصود؛ فإن كثرة الحديث عن وقوعِ الجرائم يهوِّنُ من أمرها لدى المسلمين، ويُغرِي ضِعاف النفوسِ بإتيانها اقتداءً بالمثل السيئ، وأما حين لا يذكرها الناس، فإنها مرهوبة يستبشع الناس حدوثها، ولا يقدم عليها أحد، فيقف هذا حائلاً دون انتشارها، ولمثل هذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن وقع في معصية فستر الله عليه فلم يره أحد ألا يعود فيقول: صنعت كذا وكذا.
وإنما توقع العقوبةُ على المتبجِّح الذي يصل تبجُّحه إلى حد أن يضبطه أربعة من المارَّة متلبسًا بجريمته، وأقول: من المارة؛ لأن التجسس ممنوع بأمر القرآن، وتسوُّرُ البيوت لإثبات الجريمة ممنوعٌ كذلك، إلا أنْ تقوم القرائن اليقينية على اتخاذها أوكارًا لمفسدين في الأرض، يسعون بها فسادًا.
وهذا المتبجِّح يرتكب في الحقيقة جريمة مزدوجة، فليس هو الشخص الذي استولت عليه نزوةُ الغريزة فلم يقدر عليها، وإنما هو العابث المستهتر الهازئ بكل تقاليد المجتمع وقوانينه وآدابه؛ فهو لذلك لا يستحقُّ الرحمة لا من الله ولا من الناس، فيقول القرآن عنه: ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ [النور: 2].
أما المجرم المتستر الذي يراعي تقاليد الجماعة حتى وهو يقع في الخطيئة، فهو أقل ضررًا على المجتمع؛ لأن جريمته لن تشيع، ولا يكون هناك خطر العَدْوَى بالقدوة السيئة، وهو متروك لضميرِه، وعذاب الآخرة ينتظره في نهاية المطاف، وعسى أن يتوب فيتوبَ اللهُ عليه.
فمن حرصِ الإسلام على أعراض الناس ورحمته، أمر بالتستُّر، بأن يستر المرء جريمته، وألا يفضحَ نفسه ولا أخاه، ويحثهم من وراء ذلك على التوبة والاستغفار، والله تواب رحيم.
عن أبي المسيِّب أن رجلاً مِن أَسْلَمَ يقال له: هُزال، شكا رجلاً إلى الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قولُه -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ [النور: 4]، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرًا لك))؛ أخرجه مالك وأبو داود.
ويُجاءُ إلى الخليفةِ عمر بمسلمٍ ارتكب ما يُوجِب حد الزنا، ويشهد عليه ثلاثةٌ شهادةً تدينه ولم يبقَ إلا شهادة الرابع ثم يصير الحد عقابًا محتومًا، ويرسل عمر ويستدعي الشاهد الرابع، ولا يكاد يراه مقبلاً حتى تأخذ عمرَ رهبةٌ، وحين تقترب خطاه ينظر إليه أمير المؤمنين، ويقول: أرى رجلاً أرجو ألاَّ يفضح الله به واحدًا من المسلمين، ففهِم الشاهد المقبِل ما يقصدُه عمر - رضي الله عنه - فيتقدم هذا الشاهد، ويقول: لم أرَ شيئًا يُوجِب الحد، ويتنفس عمر الصعداء ويفرح؛ لأن مسلمًا نجا من العقاب.
ويأتيه رجلٌ يسعى ذات يوم ظانًّا أنه يحمل إليه بُشْرى، فيقول: يا أمير المؤمنين، رأيتُ فلانًا وفلانة يتعانقان وراء النخيل، فيمسك عمرُ بتلابيبِه ويضربه بمِخفقتِه، ويقول له بعد أن يوسعه ضربًا: هلاَّ سترت عليه، ورجوت له التوبة، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن ستر على أخيه، ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ويأتيه يومًا رجلٌ يستغيثه قائلاً:
إن ابنتي قد أصابت حدًّا من حدود الله (ارتكبت معصية)، وأخذت شفرة لتذبحَ نفسَها فأدركناها، وقد وقعت بعض أوداجها فداويناها حتى شفيت، ثم تابت بعد ذلك توبةً حسنة، وهي اليوم تُخطَب إلى قوم، أفأُخبِرهم بالذي كان؟ فيجيب عمر: أتعمَدُ إلى ما ستره الله فتُبدِيه (وتظهره)؟! والله لئن أخبرتَ بها أحدًا من الناس، لأجعلنَّك نكالاً (وعبرة) لأهل الأمصار، اذهَبْ وأنكحها (وزوِّجها) نكاح (وزواج) العفيفة المسلمة.
ومن عظم التربية الإسلامية وعمق تأثيرها في رفع النفوس حتى في حالة زللها، النموذجان الآتيان اللَّذان لا نجدُ لهما نظيرًا في التاريخ إلا فيمَن تربَّوا في ظلال القرآن.
عن بُرَيدة - رضي الله عنه - قال: أتى ماعزُ بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، إني ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تُطهِّرني، فردَّه، فلما كان من الغدِ أتاه فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ، فردَّه الثانية، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قومِه، فقال: ((هل تعلمون بعقلِه بأسًا تُنكِرون منه شيئًا؟)) فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فقد رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسأل قومَه عنه، لعله مجنون، ذلك من أجل أن يجد له ذريعةً شرعية، فيُبعِد عنه حد الرجم رحمةً به، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه أنه لا بأس به ولا بعقله، فقد رده الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضًا عند مجيئه إليه في المرة الثالثة، إلا أن الرجل لم يتراجع عن كلامه واعترافه، فجاء إليه في المرة الرابعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُرِيد أن يُقِيم عليه الحد، حتى قال له -صلى الله عليه وسلم- في رواية تبكيتًا له بلفظ صريح: ((هل نِكْتَها؟))، قال: نعم، فحينذاك حين لم يبقَ أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيَّة ذريعة كان يتوسَّل بها من أجل أن يُبعِد تنفيذ الحكم عن هذا الرجل، فلمَّا كان الرابعةُ حفر له حفرةً فأمر به فرُجِمَ.
وبعد ذلك اختلف فيه الصحابة في أمر توبته، لكشف ما اقترفه، وكان جديرًا به أن يستر على نفسه، فمَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، وإن الله ستِّير يحب الستيرين، فحين سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- اختلافهم وكلامهم هذا فيه، قال: ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أُمَّة، لوسعتهم))؛ رواه الخمسة.
وقد جاء في رواية أخرى قصة هذا الرجل ماعزِ بن مالكٍ، "فأُمِر به فرُجِم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلينِ من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظُرْ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تَدَعْه نفسه حتى رُجِم رجمَ الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مرَّ بحيفة حمارٍ شائلٍ رِجْلَيه، فقال: ((أين فلان وفلان؟))، فقالا: نحن ذانِ يا رسول الله، قال: ((انزِلا فكُلا من جيفةِ هذا الحمار))، فقالا: يا نبيَّ الله، مَن يأكل من هذا؟ قال: ((فما نِلْتُما من عِرْضِ أخيكما آنفًا أشدُّ من أكل منه (فكلامُكما وإهانتكما أخاكما أشدُّ من أكل جيفة هذا الحمار)، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس)).
وعن بُرَيدة - رضي الله عنه - أيضًا قال: فجاءت الغامديَّة - وهي امرأة من جهينة - وقد زنت برجل، ليس بماعز بن مالك الأسلمي بل بغيره، فجاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، اني قد زنيتُ فطهِّرني، وكانت متزوِّجة محصنة، وتعلم أن عقابها هو الرجم حتى الموت، فردَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يُقِم عليها الحدَّ، ثم جاءت إليه فيما بعد، فلما كان من الغد، وكانت قد علمت وسمِعتْ بقصة ماعز، كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردَّه ثلاث مرات قبل أن يقيم عليه حد الرجم في المرة الرابعة، لذلك حين جاءت إليه مرة أخرى، قالت: يا رسول الله، لِمَ تردُّني؟ لعلك تريد أن تردَّني كما رددتَ ماعزًا، فوالله إني لحُبْلَى من الزنا، قال: ((أما لا - أي: ألا تريدين أن تستري على نفسك - فاذهبي الآن))، فاذهبي حتى تلدي فرجعت وبقيت شهورًا حتى ولدت، ولو لم تأتِه لأنقذت نفسها، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقةٍ، قالت: يا رسول الله، هذا ولدي قد ولدتُه، قال: ((فاذهبي فتُرضِعيه حتى تفطميه))، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يردُّ هذه المرأة في كل مرة، فلم يحبسها أو يبعث عليها حراسًا يراقبونها، فكان بإمكانها أن تهرب، أو على الأقل ألاَّ تأتيَه، وهذا ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبغيه رأفةً بها، فبقيت تُرضِعه وتربِّيه حتى أصبح قادرًا على أكل الطعام، والاستغناء عن ثديَيْها وحليبِها، فلمَّا فطمته أتته بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: يا نبي الله، هذا ولدي بالزنا فطمتُه، وقد أكل الطعام، حينذاك لم يبقَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي ذريعة شرعية كانت ليُبعِد بها حدَّ الرجم عن هذه المرأة، فشكَّت عليها ثيابها؛ أي: لفَّت عليها ثيابها؛ لئلاَّ تتكشَّف عند رجمها، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بحجرٍ فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبَّه إيَّاها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكسٍ - المرتكب أشنع المعاصي - لغُفِر له))، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت؛ أخرجه مسلم وأبو داود.
وفي الحديث الذي رواه الخمسة إلا البخاري عن عمرانَ بنِ حصينٍ: ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: ((لقد تابت توبة لو قسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ توبة أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!)).
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرحمَ بهذه المرأة الزانية من نفسها، إلا أنها كانت أشدَّ حرصًا على تنفيذِ حكمِ الله فيها، فلم تَزَلْ تلحُّ عليه وتأتيه بعد كل عدة ينقضي أجلها حتى أقيم عليها حكم الله.
فما أعظم التربية التي غرسها هذا الدينُ في نفوس أتباعه، مما لا نجد لها مثيلاً حتى في الأساطير، فيا أهل الأرض، فيا أهل الشرق والغرب، هذه هي مبادئنا صَنَعت ما صَنَعت من المعجزات، فأرونا ماذا صَنَعت مبادئكم؟
اللهم طهِّر قلوبنا من معاصيك، وكما سترتَ علينا في الدنيا عيوبَنا، فاسترها علينا يوم الدين، اللهم آمين!
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7 - 9].
"في إقامة الحدود الإسلامية (العقوبات على الجناة) نفعٌ للناس؛ لأنها تمنع الجرائم، وتروع البغاة، وتكفُّهم عن انتهاك الحرمات، وتحقق الأمن لكل فرد على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته، وقد روى النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن حالت شفاعته (وساطته) دون حدٍّ من حدود الله، فهو يضادُّ الله في أمره)).
وفي العقوبة التي فرضها الإسلام على الزنا رحمةٌ للناس؛ لأن فيها إبعادَهم عمَّا يضرهم صحيًّا واجتماعيًّا، ورحمة للذرية؛ لأن فيها إنقاذَ الأطفال من أن يُولَدوا وهم مشرَّدون ضائعون لا أب لهم، وإنقاذهم من الإصابة بأمراض الزنا التي يكتسبونها بالعدوى من أمهاتهم الزانيات، ورحمة للزوجات العفيفات؛ لأن فيها حمايتهن من أن تنتقل إليهن بالعدوى أيضًا أمراضُ الزنا من أزواجهم الزناة، ورحمة للأمة بأسرها؛ لأن فيها حفظها من أن تقوَّض أركانها.
ومع ذلك كله، فإن الإسلام شرع كلَّ ما من شأنه إبعاد حد الزنا من تطبيقه على الناس ما أمكن إلى ذلك سبيلاً؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ادفعوا الحدود ما وجدتم بها مدفعًا))؛ رواه ابن ماجه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ادرؤوا الحدَّ عن المسلمين ما استطعتم (أي حاولوا إلا تعاقبوا الناس على ما يرتكبون من المعاصي قدر الاستطاعة)، فإن كان له مخرج (وملجأ)، فخلوا سبيله (حاولوا إطلاق سراحه بأي حجة شرعية كانت)، فإن الإمام (الحاكم أو القاضي) لأن يخطئ في العفوِ خير له من أن يخطئ في العقوبة))؛ رواه الترمذي، والمعنى أن الحاكم إذا عفا عن متَّهم وهو مستحق العقوبة فعفا عنه خطأ، خير له من أن يعاقب متهمًا وهو بريء فعاقبه خطأ.
وعن عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه أبو داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اقبلوا من ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود))، وذوو الهيئات هم أصحاب المروءات الذين لا يعرفون بالشرِّ فيزل أحدهم الزلة، فقد تصدرُ منه هفوةٌ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُوصِينا بأن نقبل منهم العثرات، فلا نحاسبهم عليها.
وذهبت الشافعية والحنفية وأحمد إلى أن الرجوع عن الإقرار يُسقِط الحد؛ أي: إن المجرم إذا جيء به لمعاقبتِه لاعترافه على نفسه لا لشهود أربعة عليه، إلا أنه قبيل تنفيذ الحكم عليه بدَّل من اعترافه وزعم أنه بريء لم يرتكب الجريمة التي أقر بها من قبلُ، فإنه في هذه الحال يؤخذ بشهادته الأخيرة، فيترك ولا يقام عليه الحد، بل الإسلام أجاز في مثل هذه الحالة تركَ اللحاق بمَن هرب في أثناء إقامة الحد عليه؛ لأن هروبه يكون بمثابةِ مَن غيَّر اعترافه؛ استنادًا لما رواه أبو هريرة أن ماعزًا لما وجد من الحجارة فرَّ حتى مر برجلٍ معه عظم الحنك، فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((هلاَّ تركتموه))؛ قال الترمذي: إنه حديث حسن.
وحتى عند تطبيق العقوبة على الجاني، فإن الإسلام يسعى ما أمكن إلى تخفيفها، فعن أبي أميمة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اشتكى رجل من الأنصار حتى أُضني (أي: أصابه مرض حتى صار نحيلاً هزيلاً)، فعاد جلدة على عظم، فدخلتْ عليه جارية فهش لها (أي: ارتاح لها وخف ونشط)، فوقع عليها فزنا بها، فدخل عليه رجال من قومه يعودونه، فأخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله، فإني وقعتُ على جاريةٍ دخلت عليَّ، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذوا له مائة شمراخ (أي: مائة عود من أغصان نخل عليه تمر)، فيضربونه بها ضربة واحدة، (ذلك لتكون بمثابة ضربة بمائة جلدة؛ رحمةً به)؛ أخرجه أبو داود والنسائي.
ومن رحمة الإسلام أن احتاط لإثباتِ جريمة الزنا، فاشترط شروطًا فيها، يكاد من المستحيل توافرها؛ لذلك لم أجد حسب علمي أن أقيم حد الزنا على مسلمٍ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو في عهد الخلفاء الراشدين لشهادة أربعة عليه رأَوه جميعًا رأي العين، وكان جميع الذين أقيم عليهم حد الزنا أقيم عليهم هذا الحد لاعترافِهم على أنفسهم بارتكاب الجريمة.
يقول أحد الكتاب المسلمين:
إن جريمة الزنا "لا تثبت إلا بشهادةِ أربعة شهود عدول، يرون الجريمة فعلاً رأي العين، وبدرجة التثبت واليقين، ويشترط أن يكون الشهود أربعة لا أقل، حتى إذا نقصوا عن أربعة أو سحب واحد منهم شهادته، لعُدَّ الباقون متَّهمين بالبلاغ الكاذب، فوقعت العقوبة عليهم بدلاً من توقيعها على المجرم الأصيل.
ولم يكن القصدُ من المبالغة في هذا الاحتياط تشجيعَ الفاجرين على الزنا، وإنما الدافعُ إلى ذلك هو الحرصُ على أعراض الناس من تشويهِ سمعتِها بالبلاغات الكاذبة الصادرة من نفوس مريضة، وكذلك لجعل التبليغ عن جريمة الزنا نادر الحدوث، فلا يتحدث المجتمع عن وقوعها، ولا تلوكُها الأفواه، وهذا هو الأمر المقصود؛ فإن كثرة الحديث عن وقوعِ الجرائم يهوِّنُ من أمرها لدى المسلمين، ويُغرِي ضِعاف النفوسِ بإتيانها اقتداءً بالمثل السيئ، وأما حين لا يذكرها الناس، فإنها مرهوبة يستبشع الناس حدوثها، ولا يقدم عليها أحد، فيقف هذا حائلاً دون انتشارها، ولمثل هذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن وقع في معصية فستر الله عليه فلم يره أحد ألا يعود فيقول: صنعت كذا وكذا.
وإنما توقع العقوبةُ على المتبجِّح الذي يصل تبجُّحه إلى حد أن يضبطه أربعة من المارَّة متلبسًا بجريمته، وأقول: من المارة؛ لأن التجسس ممنوع بأمر القرآن، وتسوُّرُ البيوت لإثبات الجريمة ممنوعٌ كذلك، إلا أنْ تقوم القرائن اليقينية على اتخاذها أوكارًا لمفسدين في الأرض، يسعون بها فسادًا.
وهذا المتبجِّح يرتكب في الحقيقة جريمة مزدوجة، فليس هو الشخص الذي استولت عليه نزوةُ الغريزة فلم يقدر عليها، وإنما هو العابث المستهتر الهازئ بكل تقاليد المجتمع وقوانينه وآدابه؛ فهو لذلك لا يستحقُّ الرحمة لا من الله ولا من الناس، فيقول القرآن عنه: ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ [النور: 2].
أما المجرم المتستر الذي يراعي تقاليد الجماعة حتى وهو يقع في الخطيئة، فهو أقل ضررًا على المجتمع؛ لأن جريمته لن تشيع، ولا يكون هناك خطر العَدْوَى بالقدوة السيئة، وهو متروك لضميرِه، وعذاب الآخرة ينتظره في نهاية المطاف، وعسى أن يتوب فيتوبَ اللهُ عليه.
فمن حرصِ الإسلام على أعراض الناس ورحمته، أمر بالتستُّر، بأن يستر المرء جريمته، وألا يفضحَ نفسه ولا أخاه، ويحثهم من وراء ذلك على التوبة والاستغفار، والله تواب رحيم.
عن أبي المسيِّب أن رجلاً مِن أَسْلَمَ يقال له: هُزال، شكا رجلاً إلى الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قولُه -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ [النور: 4]، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرًا لك))؛ أخرجه مالك وأبو داود.
ويُجاءُ إلى الخليفةِ عمر بمسلمٍ ارتكب ما يُوجِب حد الزنا، ويشهد عليه ثلاثةٌ شهادةً تدينه ولم يبقَ إلا شهادة الرابع ثم يصير الحد عقابًا محتومًا، ويرسل عمر ويستدعي الشاهد الرابع، ولا يكاد يراه مقبلاً حتى تأخذ عمرَ رهبةٌ، وحين تقترب خطاه ينظر إليه أمير المؤمنين، ويقول: أرى رجلاً أرجو ألاَّ يفضح الله به واحدًا من المسلمين، ففهِم الشاهد المقبِل ما يقصدُه عمر - رضي الله عنه - فيتقدم هذا الشاهد، ويقول: لم أرَ شيئًا يُوجِب الحد، ويتنفس عمر الصعداء ويفرح؛ لأن مسلمًا نجا من العقاب.
ويأتيه رجلٌ يسعى ذات يوم ظانًّا أنه يحمل إليه بُشْرى، فيقول: يا أمير المؤمنين، رأيتُ فلانًا وفلانة يتعانقان وراء النخيل، فيمسك عمرُ بتلابيبِه ويضربه بمِخفقتِه، ويقول له بعد أن يوسعه ضربًا: هلاَّ سترت عليه، ورجوت له التوبة، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن ستر على أخيه، ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ويأتيه يومًا رجلٌ يستغيثه قائلاً:
إن ابنتي قد أصابت حدًّا من حدود الله (ارتكبت معصية)، وأخذت شفرة لتذبحَ نفسَها فأدركناها، وقد وقعت بعض أوداجها فداويناها حتى شفيت، ثم تابت بعد ذلك توبةً حسنة، وهي اليوم تُخطَب إلى قوم، أفأُخبِرهم بالذي كان؟ فيجيب عمر: أتعمَدُ إلى ما ستره الله فتُبدِيه (وتظهره)؟! والله لئن أخبرتَ بها أحدًا من الناس، لأجعلنَّك نكالاً (وعبرة) لأهل الأمصار، اذهَبْ وأنكحها (وزوِّجها) نكاح (وزواج) العفيفة المسلمة.
ومن عظم التربية الإسلامية وعمق تأثيرها في رفع النفوس حتى في حالة زللها، النموذجان الآتيان اللَّذان لا نجدُ لهما نظيرًا في التاريخ إلا فيمَن تربَّوا في ظلال القرآن.
عن بُرَيدة - رضي الله عنه - قال: أتى ماعزُ بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، إني ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تُطهِّرني، فردَّه، فلما كان من الغدِ أتاه فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ، فردَّه الثانية، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قومِه، فقال: ((هل تعلمون بعقلِه بأسًا تُنكِرون منه شيئًا؟)) فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فقد رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسأل قومَه عنه، لعله مجنون، ذلك من أجل أن يجد له ذريعةً شرعية، فيُبعِد عنه حد الرجم رحمةً به، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه أنه لا بأس به ولا بعقله، فقد رده الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضًا عند مجيئه إليه في المرة الثالثة، إلا أن الرجل لم يتراجع عن كلامه واعترافه، فجاء إليه في المرة الرابعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُرِيد أن يُقِيم عليه الحد، حتى قال له -صلى الله عليه وسلم- في رواية تبكيتًا له بلفظ صريح: ((هل نِكْتَها؟))، قال: نعم، فحينذاك حين لم يبقَ أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيَّة ذريعة كان يتوسَّل بها من أجل أن يُبعِد تنفيذ الحكم عن هذا الرجل، فلمَّا كان الرابعةُ حفر له حفرةً فأمر به فرُجِمَ.
وبعد ذلك اختلف فيه الصحابة في أمر توبته، لكشف ما اقترفه، وكان جديرًا به أن يستر على نفسه، فمَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، وإن الله ستِّير يحب الستيرين، فحين سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- اختلافهم وكلامهم هذا فيه، قال: ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أُمَّة، لوسعتهم))؛ رواه الخمسة.
وقد جاء في رواية أخرى قصة هذا الرجل ماعزِ بن مالكٍ، "فأُمِر به فرُجِم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلينِ من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظُرْ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تَدَعْه نفسه حتى رُجِم رجمَ الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مرَّ بحيفة حمارٍ شائلٍ رِجْلَيه، فقال: ((أين فلان وفلان؟))، فقالا: نحن ذانِ يا رسول الله، قال: ((انزِلا فكُلا من جيفةِ هذا الحمار))، فقالا: يا نبيَّ الله، مَن يأكل من هذا؟ قال: ((فما نِلْتُما من عِرْضِ أخيكما آنفًا أشدُّ من أكل منه (فكلامُكما وإهانتكما أخاكما أشدُّ من أكل جيفة هذا الحمار)، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس)).
وعن بُرَيدة - رضي الله عنه - أيضًا قال: فجاءت الغامديَّة - وهي امرأة من جهينة - وقد زنت برجل، ليس بماعز بن مالك الأسلمي بل بغيره، فجاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، اني قد زنيتُ فطهِّرني، وكانت متزوِّجة محصنة، وتعلم أن عقابها هو الرجم حتى الموت، فردَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يُقِم عليها الحدَّ، ثم جاءت إليه فيما بعد، فلما كان من الغد، وكانت قد علمت وسمِعتْ بقصة ماعز، كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردَّه ثلاث مرات قبل أن يقيم عليه حد الرجم في المرة الرابعة، لذلك حين جاءت إليه مرة أخرى، قالت: يا رسول الله، لِمَ تردُّني؟ لعلك تريد أن تردَّني كما رددتَ ماعزًا، فوالله إني لحُبْلَى من الزنا، قال: ((أما لا - أي: ألا تريدين أن تستري على نفسك - فاذهبي الآن))، فاذهبي حتى تلدي فرجعت وبقيت شهورًا حتى ولدت، ولو لم تأتِه لأنقذت نفسها، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقةٍ، قالت: يا رسول الله، هذا ولدي قد ولدتُه، قال: ((فاذهبي فتُرضِعيه حتى تفطميه))، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يردُّ هذه المرأة في كل مرة، فلم يحبسها أو يبعث عليها حراسًا يراقبونها، فكان بإمكانها أن تهرب، أو على الأقل ألاَّ تأتيَه، وهذا ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبغيه رأفةً بها، فبقيت تُرضِعه وتربِّيه حتى أصبح قادرًا على أكل الطعام، والاستغناء عن ثديَيْها وحليبِها، فلمَّا فطمته أتته بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: يا نبي الله، هذا ولدي بالزنا فطمتُه، وقد أكل الطعام، حينذاك لم يبقَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي ذريعة شرعية كانت ليُبعِد بها حدَّ الرجم عن هذه المرأة، فشكَّت عليها ثيابها؛ أي: لفَّت عليها ثيابها؛ لئلاَّ تتكشَّف عند رجمها، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بحجرٍ فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبَّه إيَّاها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكسٍ - المرتكب أشنع المعاصي - لغُفِر له))، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت؛ أخرجه مسلم وأبو داود.
وفي الحديث الذي رواه الخمسة إلا البخاري عن عمرانَ بنِ حصينٍ: ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: ((لقد تابت توبة لو قسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ توبة أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!)).
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرحمَ بهذه المرأة الزانية من نفسها، إلا أنها كانت أشدَّ حرصًا على تنفيذِ حكمِ الله فيها، فلم تَزَلْ تلحُّ عليه وتأتيه بعد كل عدة ينقضي أجلها حتى أقيم عليها حكم الله.
فما أعظم التربية التي غرسها هذا الدينُ في نفوس أتباعه، مما لا نجد لها مثيلاً حتى في الأساطير، فيا أهل الأرض، فيا أهل الشرق والغرب، هذه هي مبادئنا صَنَعت ما صَنَعت من المعجزات، فأرونا ماذا صَنَعت مبادئكم؟
اللهم طهِّر قلوبنا من معاصيك، وكما سترتَ علينا في الدنيا عيوبَنا، فاسترها علينا يوم الدين، اللهم آمين!
المسوق العربي- عضو سوبر
-
عدد المساهمات : 1225
التقييم : 9
العمر : 35
احترام قوانين المنتدى :
رد: حد الزنا بين رحمة الإسلام وعظم التربية
سلمت يداك على الطرح الطيب
لاعدمنـآ هذا التميز
يعطيكـ ربي العآفيهـ
بـ إنتظارجديدك بكل شوق
ودي ووردي
مواضيع مماثلة
» العقدية أهل السنة والجماعة لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمة الله
» ما الفرق بين رحمة منا و رحمة من عندنا
» شيخ الإسلام الإمام النووي من أبرز علماء الإسلام صاحب كتاب رياض الصالحين
» عاقبة الزنا
» ما معني"لا تقربوا الزنا" ؟
» ما الفرق بين رحمة منا و رحمة من عندنا
» شيخ الإسلام الإمام النووي من أبرز علماء الإسلام صاحب كتاب رياض الصالحين
» عاقبة الزنا
» ما معني"لا تقربوا الزنا" ؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى